إن لم تستح فقل ما شئت!

Photo

من اغرب ما قرأته قبل أيام مقالة، بعنوان"يحيا الاستعمار" لأحد الكتاب يدعو فيها إلى فكرتين مترابطتين. يدعو في الفكرة الأولى إلى عودة الاستعمار إلى بلداننا العربية وذلك كأفضل الوسائل التي بإمكانها حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبّط فيها مجتمعاتنا بعد فشل دول الاستقلال في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وإقامة الحكم الديمقراطي. ويسوق الكاتب مبررات عديدة لتدعيم فكرته من ذلك أن الاستعمار هو أكثر رأفة بالفقير من حكامنا الوطنيين وان الأمل كبير في اجتثاث الفقر وإنقاذ الفقير بعد عودة سلطة الاستعمار السرقات ستتوقّف و الفساد بجميع أشكاله سيغرب والبطالة ستنحسر…

ويعتبر في فكرته الثانية أن الثورة الجزائرية كانت أكبر غلطة ارتكبها الشعب الجزائري إذ كان على الجزائريين، حسب رأيه، أن يناضلوا ويقدموا ما قدموا من تضحيات من أجل معاملتهم على قدم المساواة مع بقية الفرنسيين.

وهذا شيء كان بالإمكان تحقيقه بدون إراقة قطرة دم واحدة، ولا سيما في جو المساواة الذي يسود الآن إذ أن ذلك سيؤدي إلى انتقال نحو 35 مليون مسلم جزائري إلى مواطنين فرنسيين بالإضافة إلى نحو خمسة ملايين مسلم في فرنسا(زيادة الهجرة والولادة بين المسلمين)، الأمر الذي يؤدي إلى تحول فرنسا إلى أول دولة أوروبية كبرى تقطنها وتحكمها أكثرية مسلمة. و بتحوّل فرنسا إلى دين محمد تستطيع أن لعب دورا حاسما في ضم تركيا أيضا للاتحاد الأوروبي وفي توجهاته نحو القضية الفلسطينية وسائر مشاكل العالم العربي والإسلامي؟!.

وفي الحقيقة فان هذه الدعوة تتضمن مخاطر عديدة سنقتصر على تبيان اثنين منها:

تعبّر الفكرة الأولى،في احد أبعادها، عن توجّه فكريّ سائد في العالم العربي يتخذ تعبيرات مختلفة ويلتقي جزئيّا مع المدرسة الاستعمارية الجديدة التي حاولت في فرنسا قبل سنوات مثلا أن تقرّ قانونا (قانون 23 فيفري 2005) يفرض على المؤسسات التربوية والجامعية تمجيد الحضور الاستعماري الفرنسي في بلدان ما وراء البحار و شمال إفريقيا وإبراز الدور الايجابي لتلك الممارسة والتضحيات الجسام للجيش الفرنسي..

وتكمن خطورة هذه الفكرة في كون الأجيال العربية الجديدة لم تعرف الظاهرة الاستعمارية ولم تعشها ولم تدرسها. إذ اكتفت برامج تدريس التاريخ في اغلب الدول العربية بتمجيد الحركات الوطنية فيها دون الاهتمام أو التركيز على الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي خلفها الحضور الاستعماري وعمليات التدمير التي أصابت تلك الهياكل وأوضاع البؤس والحرمان والشقاء التي كانت تعيشها تلك المجتمعات نتيجة الهيمنة الاستعمارية..

كما تتجاهل تلك البرامج حقيقة الايدولوجيا الاستعمارية العنصرية التي كانت تحتقر الآخر، وتنظر إليه نظرة دونية، وهي التي أضفت الشرعية على هيمنة الأقلية الأوروبية المستعمرة على الأغلبية من السكان الأصليين وأشاعت الخوف في النفوس وصولا إلى اخضاعهم بكل الطرق القانونية وغير القانونية.. تحقيقا لأهداف الاستعمار الاقتصادية والثقافية و الاستراتيجية.

وعلى عكس ما يدّعي منظّرو الاستعمار الجدد فان هذا الأخير لم يسع في أي وقت من الأوقات إلى تحقيق العدل الاجتماعي أو الاقتصادي أو إشاعة الطمأنينة في نفوس السكان الأصليين، بل اكتفى في الغالب بنهب خيرات الشعوب والاستفادة من الطاقات البشرية المحلية واستخدامها في الأشغال الشاقة التي يأبه العنصر الأوروبي القيام بها.أما السلطة الإدارية التي أسسها و الأجهزة والقوانين التي استخدمها فكانت أداة لممارسة العنف والإكراه والعقاب الجماعي...

لقد شكّل حضور المستوطنين والأوروبيين قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية مما أدى إلى تعميق التناقضات بين السكان الأصليين والوافدين إلى حدّه الأقصى، الأمر الذي أدى إلى اختلال موازين القوى بشكل حادّ بين المستعمِر والمستعمَر الأمر الذي فتح المجال واسعا أمام ردود الفعل الفردية العفوية أو الجماعيّة المنظمة أو العفوية في أعماق الأرياف والقرى كما المدن ضد الحضور الاستعماري، رغبة في التخلص منه بأي ثمن فكان السجناء والمنفيون والشهداء الذين ضحوا في سبيل أن تحيا أوطانهم حرة عزيزة وكريمة…

ومهما كان عنف الحكومات الوطنية وجحود قياداتها وأنانيتها وقسوتها فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقارنها بممارسات السلطة الاستعمارية ومهما ساءت أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية فلا يمكن أن تقارن بما كان عليه الأمر زمن الاحتلال بل قد تكون أوضاعنا بما هي عليه اليوم من بؤس في جزء منها نتيجة عدم فكّ ارتباط حكوماتنا بمستعمرينا السابقين..

ولا شكّ أن احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية "زعيمة الديمقراطية" والمبشّر بها والويلات التي عاناها ومازال يعانيها هذا الشعب وعمليات النهب الواسعة المستمرة لخيراته أفضل مثال قد يساعد الأجيال الجديدة على الوقوف على ماهيّة الاستعمار وحقيقته وذلك دون الحديث عما يعانيه الشعب الفلسطيني وآخره الإقرار المبدئي للقوانين العنصرية كتلك التي تجرّم إحياء ذكرى النكبة.. أو التي تعاقب كل من لا يقرّ بـ"اليهودية الدولة الصهيونية الديمقراطية"…

أما خطورة الفكرة الثانية فتتزامن مع ما يخطط له ضد الشعب الفلسطيني دوليا وعربيا في الطريق إلى إنهاء قضيته ونجدة المأزق الصهيوني. إذ تسعى بعض الأوساط إلى حمل الفلسطينيين على التعامل مع الأمر الواقع والقبول بشروط التسوية بنسختها الأمريكية-الصهيونية الجديدة والتي ترتكز على مبدأ حلّ الدولتين فمقابل "التنازلات الموجعة؟!"التي ستقدم عليها إسرائيل و تسمح بموجبها بإقامة الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح عاصمتها القدس الشرقية، بشرط عدم منح حق عودة الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة عام 1948 بل إقرار مبدأ التوطين أو الإقامة في الأراضي التي احتلت سنة 1967 وتبادل أراضي بين إسرائيل والفلسطينيين.

ويتضمّن المشروع استعداد الولايات المتحدة، وحرصها مع الدول الأوروبية والعربية، على منح تعويضات اللاجئين وتنظيم وضعهم القانوني في الدول التي يقيمون فيها، بما في ذلك الحصول على جوازات سفر من تلك الدول(حقّ المواطنة)…

وفي هذا الإطار أخذت بعض الأوساط العربية والفلسطينية بالخصوص تتحدث وان باحتشام عن عملية توطين الفلسطينيين وجدواها خاصة في دول أوروبية وأمريكية باعتبار أن ذلك سيساعد هؤلاء على تشكيل "لوبي" فلسطيني منظّم و قويّ في كل دولة من الدول بإمكانه بالتالي الضغط على صانع القرار في تلك الدول التي يقيم فيها وذلك خدمة لمصالح الدولة الفلسطينية ودوامها ومناعتها...تماما مثلما وظّفت الحركة الصهيونية سابقا اليهود الأوروبيين والأمريكيين لإقامة الدولة الصهيونية ومثلما تستغل الدولة الإسرائيلية الصهيونية الآن اللوبيات اليهودية في تلك الأصقاع وتوجّهها.

فبفضل انتشار أفرادها وتموقعهم و نفوذهم في مختلف مراكز اتخاذ القرار تمكنت إسرائيل من تحقيق جلّ أهدافها.فلماذا لا يشكل جزء من الفلسطينيين دولتهم يقول هؤلاء،ويلعب الجزء الأخر دور حماية الدولة ورعايتها؟ وهذه بالتأكيد وصفة جديدة أو تقليعة عجيبة صيّرت المحتلّ"نعمــة" والمغتصب "رحـمــة".أما في قضية الحال و قديما قالوا إن لم تستحي فافعل ما شئت!أما في قضية الحال فيمكن القول إن لم تستح فقل ما شئت!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات