لا يمكن عزل قرار الاضراب العام في الوظيفة العمومية عن سياق شديد التعقيد يمنح مشروعية مفارقة لمسانديه ومعارضيه في نفس الوقت. ويطرح الاضراب مجموعة رهانات متداخلة ومتراكبة ومتوازية ومتلاحقة وبعضه لا رابط بادي للعيان بينه و يتجاوز الظرفي ليطال البنيوي . استعرضها دون تراتب.
الرهان الاول: انهيار فعلي للمقدرة الشرائية بمفعول تضخمي حيث تقارب نسبة التضخم عتبة مخيفة ب8% تزداد وطاته امام الحجم المخيف للتداين الاسري لدى البنوك وارتفاع سعر العملة الجاري.
الرهان الثاني: مشكل تمثل لفوارق التاجير بين القطاعات عمقت الاحساس بالغبن الاجتماعي وقناعة ان من يضغط اكثر يحصل على ما يريد. وهو امر واقع. والمقارنة مع واقع نفس القطاع في بلدان مجاورة تقود الى نفس النتيجة. مثال ذلك ان اجر استاذ جامعي في المغرب يساوي اربعة مرات اجر نظيره التونسي.
الرهان الثالث: ترتفع كتلة الاجور في تونس بما لا يوازيه ارتفاع للنمو الاقتصادي اضافة الى اتساع الهوة بين القطاع العام والقطاع الخاص وتراجع قوة الدولة التعديلية في التشغيل والجباية والاستثمار والحوكمة . مرد ذلك شيء من العجز والتواطؤ علي تازيم الاوضاع من الداخل والخارج.
الرهان الرابع: المسار اللولبي لمشكل المديونية الذي يرهن السيادة الوطنية للدائنين وعلى راسهم صندوق النقد. هذا دون ان يكون لمناهضة تدخل هذا الاخير من البدائل ما يخفف الوطاة مع الاصرار على المطلبية الاجتماعية "العالية".
الرهان الخامس: هشاشة الدور الذي يلعبه القطاع الخاص امام المنافسة الخارجية بكل تعقيداتها وامام استمرار الرهان على الدولة كحريف وراع اول. كل ذلك يضاعف الضغط على الوظيفة العمومية والقطاع العام و يحوله من قطاع خدماتي انتاجي تسييري الى قطاع ملجأ اجتماعي.
الرهان السادس: امراض بالجملة في الوظيفة العمومية اكثرها قديم منها: التضخم في العدد وسوء التوظيف وتردي الخدمة والزبونية واختلال التوزيع الافقي والعمودي والمجالي وضعف الكفاءة والاداء وعقلية الحد الادنى والفساد الفعلي. هذا كله يمثل اعباءا على الدولة و النقابة في نفس الوقت. في انتظار اصلاحات عميقة تحرر القطاع من عوائقه وتحرر طاقاته الانتاجية وتقر في الواقع علاقات عقلانية بدل العلاقات زبونية وريثة العهد البائد العائد.
الرهان السابع: نزعة الى تحزيب الاتحاد وتحويله الى حصان طروادة وتحويله الى حزب مستتر ولا نقول تسييسه وكل محاولة للحديث عن التوازن داخله او تمييز الادوار النقابية عن الادوار السياسية تصبح اختراقا او استهدافا للخيمة والمنظمة العتيدة وتقابل بشيطنة عنيفة تذهب الى التخوين والترذيل والاستبعاد وحتى نزع الصفة الوطنية.
الرهان الثامن: رغبة غير معلنة في تحديد مربع حركة للاتحاد لدى الاحزاب الحاكمة ولدى المستثمرين والدائنين يرد عليها الاتحاد نفسه بتحركات تصعيدية واستباقية لاظهار القوة على الارض وليس ادناها الدعوة الى اضرابين عامين في القطاع العام والوظيفة العمومية.ولقد عقد الاتفاق في الاضراب الاول من فرصة الوصول الى اتفاق في الثاني لكونه رفع سقف الانتظارات و سحب بعض ذرائغ المغالبة و لوجود رغبة سياسية قوية في المضي في الاضراب.
الرهان التاسع: لايمكن عزل الاضراب عن سياق معركة اسقاط الحكومة التي انطلقت بوضوح منذ شهر ماي 2018. لقد تبنى الاتحاد موقفا قصوويا في اتجاه تغيير حكومي كامل لكن مجريات الامور سارت في اتجاه بقاء يوسف الشاهد وترجيح فكرة التحوير الجزئي و"خروج ناعم" الحزب الحاكم الفائز بانتخابات 2014 نحو المعارضة. الشيء الذي يجعل من الاضراب العام اجابة نحو الحكومة ونحو القواعد النقابية التي شحنت في اتجاه سياسي ما كان للاتحاد ان يتورط فيه حفاظا على هيبته و مصداقيته.
الرهان العاشر: لعبة توازن نفوذ ومواقع داخل الاتحاد بين الاحزاب وبين الهياكل وهي لعبة الافقي والعمودي. مثال ذلك الخلاف العميق بين جامعة التعليم الثانوي والمركزية النقابية. ترى الاولى ان الثانية خذلتها في صراعها مع الوزير العائد من العهد البائد بنوايا انتقامية وترى الثانية ان الاولى تشوش عليها و تزايد عليها في تحركها العام الذي يخص الوظيفة العمومية و القطاع العام. هذا فضلا عن رهانات استحقاقات تجديد الهياكل ومعركة خلافة اليعقوبي على راس نقابة التعليم الثانوي وهي من اقوى نقابات الاتحاد واكثرها ثمثيلا.
يبدو مما سبق ان مبررات الاضراب العام في الوظيفة العمومية لا تفتقر الى الوجاهة كما ان معارضته لا تعدم الحجة الموضوعية. ولا شك ان الاتحاد يبقى قوة توازن نقابي و سياسي اولى امام سياق انتقالي ميزته انعدام الاستقرار الحكومي. فالوصول الى اتفاق من عدمه ليس هو المشكل الوحيد حيث ان تفعيل الاتفاقات هو المشكل الحقيقي.
لذا فالوصول الى الاتفاق قد يعني امتصاصا مرحليا للمشكل او ربما هو رشوة سياسية بوجه من الوجوه لحكومة تعرف انها راحله في مدى لا يتجاوز سنة. والملاحظ المتابع لا يمكن ان يغفل على السلوك النقابي المخاتل الذي يدفع الى امضاء اتفاقات قد تعجز المالية العمومية المختلة عن الايفاء بها في المدى المنظور لكنها قدرتعتبر مكاسب نقابية ومادة لتحركات قادمة تستدعي حجة تواصل العمل الحكومي.
يبقى الحراك الاجتماعي برمته صحيا ولا يحرج مطلب الحاجة الى الاستقرار الا جزئيا امام نزعة لبرالية زاحفة ومتغولة لا تقبل من الديمقراطية سوى ما يعزز سيولة ادفاق العولمة ولا يحترم حق الشعوب في تقرير مصائرها. ويبقى الجميع شركاءا في الازمة و شركاءا في الحل ولا معنى للقول "هل يستوي الذين يحكمون والذين لا يحكمون؟"
سيقول بعضم الذي اتسع صدره لاستكمال قراءة هذا النص المتواضع الى اخره " ايه لم نفهم بعد هل انت مع الاضراب ام ضده؟
لم يكن ذلك الغرض وإنما هي دعوة للتفكير خارج ثنائية مع او ضد.