سيف الزّمان وقَوس الموت

Photo

الدّنيا مستقرّ ومتاع للوجود البشري الظرفي والزّمن سهم توجيه لصيرورته حامل لمعناه .يستهلك الإنسان الدّنيا حسّا وحركة ويرهقه وينهكه الزّمان معنى لمعناه فهو قانونه الضّاغط على معناه وحقيقته.

لا يفارقه الإنسان ولا يتجازوه إلا بحلول الموت القانون الصارم السّالب للحياة. لا جديد يذكر ولا قديم يعاد. فنسق الحياة وسيرها وتواتر الأحداث على نمط واحد أو في سياق أنماط متشابهة فلا تغيير ولا إبداع ولا إنجاز وتبديل. فيثبّت الحال مقاما والعادة إلى إدمان وتكرار. إنها النسقيّة المقيتة المميتة والتكرار المملّ والرتابة.

1_العادة والإدمان:

كأنّ النّاس قد قدّوا في قالب واحد صاغتهم ظروفهم ومألوفاتهم وسعيهم وراء معاشهم إنّ السعي لشتّى والمشاعر والأحاسيس والهموم متفرّقة متنوّعة وإن إختلفت الدرجات فالنوع واحد ثابت متأصّل وأصيل في ذات البشر مأساة البشر في حضورهم في مسرح الحياة فالحضور قانون والزّمن هو القانون والموت عدم الحسّ وإنعدام كل القوانين.

حجب تغشى الذّات فتعيقها وتحبسها ؛حجاب أعيان من مخلوقات ودنيا وما فيها من شواغل وشواغب وحجاب علوم وحروف وأسماء ورسوم وجهل تستر كلّها المعرفة فتقيّد المعنى بمعناك لأنّ معناك لا يحمل إلا قالب شهودك فمن ذا الذّي يتجاوز عتبة معناه في قالب شهوده وأحاسيسه وشعوره وعقلانيته ومنطقه؟

فمتى يستردّ الإنسان وحدته وأحديّته وفردانيته ويخرج عن الإنقسام الوهمي الذّات والموضوع للشّاهد والمشهود ويعود إلى بساطة الجوهر وهي حقيقة كروح مفارقة للعالم الماديّ معانقة للكمال ؟ إن ترسّخت وتعمّقت أبعاد الجسد في قالب الوجود سار الجسم والرّوح له تابعة خاضغة ساكنة باهتة لغلبة وهيمنة ناسوت الإنسان على روحانيته فينمو تبعا لذلك ويتطوّر الجانب الماديّ ويضمر ويضمحل الجانب الروحي في الكينونة والصيرورة إنه التناسب العكسي لإختلاف الجوهر والعرض ظواهر الكون الماديّ ظاهر للعيان مشعّ مخترق للأَوساط النفس الشفّافة من بصر ناظر شاخص ونفس راغبة طامعة لا تشبع وقلب شغوف عاشق وعقل معتكف ساه في حضرة الأحداث والدواخل فالخروج من النّفس والعقل هو الخروج من الخطر والعادة والتكرار والإدمان والإستئناس بلطافة الروح في المعرفة الإلهيّة معنى للتجاوز والعبور والعلوّ وتحرير القلب من الأسر والنّفس من سجن قالب الوجود والسّوى وتجريد العقل من إطاره ومألوفاته وعاداته الفكريّة الشعور القلبي واقع في الزّلل واقع في المحاذير والمزالق التي تخطر في فناء الخواطر الملكيّة التي موضوعها الحياة والمصالح والمنافع فكلّ ما يدور في حياة الملك المشهود جلّها وأغلبها خواطر بدعيّة وجحديّة ونرجسيّة منتشرة مبثوثة تسوق عامة الناس إلى منخفضات ومدارك الشقاء وقعر البلاء وتمكّن العادة والتكرار والإدمان أليس خطاب الدنيا خطاب تراب أفكار السّاهين والغافلين مستنقع للإغراءات وملاذ أصحاب الرّونق والزخرف ؟

يسعى الإنسان في دائرة نظام مغلق وتتكرر ممارساته وعاداته فتصبح سلوكيات لاإرادية شرطيّة تلقائية أليّة من حيث لا يعلم ولا يدري فالكل مجيب لما يصغي إليه قلبه وكلّ سائر معه طريقه وكل عابر معه جهته إليه يتوجّه ؛ سائر إلى مقامه ومقيمه قابع حيث همّه ووهمه وحلمه حيث نزعته ورغبته وإرادته ومعبره وموطنه من ذا الذي يستطيع أن يفارق القول ويفارق الرؤية ويصمت ؟

فبين النطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء غاص وسبح البشر في ميادين العلوم والفنون مستكينين مستقرّين لا عابرين متجاوزين فتآلفت الأرواح بالأشباح فلقد تعلّقوا بوسائط الدّنيا وأفانينها وأبدوا تعلّقهم وابتغوا سعيّ رغّابها ودخلوا قصورها وشيّدوا بنيانها بأحاسيسهم ومشاعرهم وبأفكارهم وأفعالهم قالب الدّنيا المعنوي شرنقة تحيط وقوقعة تميت فمن ذا الذي يتجاوز الحاجز والجدار العتيد؟

فكم من واحد فتحت له باب الوجد بالمعلومات والإشارات والمشاعر والرغبات فوردها فأصدرته إليها فأحتجب. أيها الإنسان إن رغبت وطمعت خرجت من إضمارك وإذا أخرجتك الدّنيا عن إضمارك ظفرت بك. فمتى يحلّق القلب والبصيرة والوجدان الصوفي خارج قفص معناك وسجن وجودك؟

إن معناك في سجن ذاتك قابعا وفي قالب الإجتماع والمجتمع خاضعا حيث المعرفة أصناما والعلم أوثانا والعادة إدمانا لا تسقط في الحلبة صريعا يقتلك صوت نفسك ورغائبها فالنفس ناطقة لا تصمت وليس تصمت فتسمع وإذا حاورتها أوهمتك أنّها تسمع وهي بالحقّ لا تسمع إلا نفسها ؛ فأضمر جوعها واعظم على إضمارك ولا تضمر به منزلة ومطمع فتخرج من إضمارك بإضمارك القوقعة البشريّة أو الطبيعة.

_2 الرقيعة:

إنّ الإنسان عاجز أن يصارح نفسه ويكشف عن حقيقة نفسه يغترّ بأي فضيلة ولو لوجودها بنزر قليل وبأي عمل أو عطاء ضئيل فتجعله يعتقد بكماله وتميّزه وتنزّهه وعلوّه وهو حقير وضيع إنّ النظرة القوقعيّة تنبت في النفس وتترعرع من الرّضا والغرور والعجب والظلم والجهل فهي تصدر أحكاما مصبوغة بقالبها المعنوي والنفسيّ الغير متجاوز ولا المتجرّد فهامش الحريّة التي يتمتّع بها الإنسان تجعله يتجاوز حدوده ماديّا ومعنويّا ونفعيّا وعمليّا لا يقف عند حقّه واهما ظالما لنفسه ولغيره إن كان ذالك متاحا له أو يتجاوز وهما وخيالا وحلم يقظة تصعيدا وتعويضا عن قصوره وعجزه إن لم تسنح له الفرصة لنيل ما يريد إن الإنسان في وجوده متجاوز لحدود وجوده الذاتي فلا يتقيّد معنويّا وإن سجن ماديّا فغالبا لا يتفطّن ويلتفت ليبصر عيوبه ولا يقيم الحجّة على نفسه ويصلح إعوجاحه وخلله ويعالج نقائصه ومساوئه بما أنه كائن متوقّع خارجيّا منعكس حسّا ومعنى إلى مداه الخارجي الإجتماعي العلائقي.

إذن كيف يلتفت إلى نفسه وهو غارق منغمس ذائب في مجالاته ووسائطه الخارجيّة و محيطاته البيئيّة وشتّى الإيحاءات والمألوفات الإجتماعيّة ؟ هذا الإنسان الكئيب الغريب العجيب الفريد يحتويه الزمان ويغيّبه الموت فهو وجودا عينيّا حسيّا ومعنويّا يتحقّق وجوده الحسيّ في الدنيا فيحفّزه حافزه الحسيّ والنفسيّ للسعيّ والكسب. ويتحقق وجوده المعنوي في الزمان ليتبدّل ويتغيّر سحنة وآمالا وأوهاما ويقرّب أجله ويقصّر من عمره وهو أيضا محكّا لأعماله كاشفا لأحواله. إن تفطّن الإنسان للمعاني المرافقة لوجوده كبعد الزمان وحقيقة الموت وتحسّسها كما يتحسّس مادياته ورغباته الدنيويّة وعى وفهم وعلم وأدرك سر وجوده وحقيقة ذاته. فما سرّ الزمان والموت في علاقته مع حقيقة الإنسان ؟

_3 الزمان :

قيمة ثابتة وبعد هام في حياة البشر يتحسسّه الإنسان ولا يتلمّسه ولا يكتنه حقيقته فهو السّالب لطفولته وشبابه ثم لكهولته ثم لعمره كلّه ؛ يمرّ متخفيّا عن بصره غير مدركا لقوّة أثره لإنشغاله وإهتمامه وميولاته وإتجاهاته الدنيويّة وتعلّقه بالآني والظرفي والقريب والعاجل ولكن الزمن يعاجله وينقص من عمره ففي تتابعه تغيّر الأحوال فهو قطار رحلة العمر والكلّ راكب فيه ينقل ركّابه إلى مسافات حسيّة ومعنويّة متباعدة زمانيّا ويتوقّف من محطّة إلى أخرى لينزل من ماتوا وفارقوا الحياة ليستقرّوا في مثواهم الأخير لتنتهي بذلك رحلتهم مع الزمن والوجود ويصعد فيه من وُلدوا ليبدأوا سفرتهم ورحلة عمرهم.

فالنّازل مفقود والصاعد موجود وتتواصل سفرة الحياة بمن أستهم قطار العمر. فليس الزمان دقائق وأيام وأشهر وأعوام تقاس فهي ليست مقاييس إعتباريّة ولا أساس موضوعي لها لقد إصطلح الإنسان على تسميّة الزمان بمسميّات حتّى يحلّ إشكال الوجود بشتّى تمظهراته وتغيّراته الجسديّة بتبدّل سحنته وبياض شعره وتقوّس ظهره فهو بعد «البعد الرابع» من الأبعاد ممتدّ في الفضاء الفسيح لا يعرف الإنسان منه إلاّ النقطة التّي يمرّ بها في سيره خلال الزمان وهو يظنّها لحظة عابرة بينما هي جزء من خط طويل لا يدرك مبدأه ولا منتهاه الإنسان يندمج وينخرط وينغمس بعمق ولاوعي لإحتياجاته الماديّة وحوافزه الحسيّة والنفسيّة الأقرب لنفسه وهواه ويتعمّق سلوكه وإرادته ومقصده مع مبادئه الأساسيّة للحركة تجاه مصالحه الشخصيّة وضروراته الماديّة.

فكيف له أن يفقه ويتبيّن مسار الزمان وحركته ؟ يسوق الزمن الإنسان إلى أقداره وآجاله وهو غير قادر على إستيعاب لحظاته وزمانه !وإن تحكّم أحيانا في مساره وصيرورته الزمانيّة فغالبها لقضاء شؤونه الماديّة التي لا تنتهي ؛ تعزله بيئته الخارجيّة ومحيطه عن قيّمه الجوهريّة فتتلاشى حقيقة الزمن والأجل في بؤرة مركز وجوده.

4_الموت:

قانون صارم وحقيقة ثابتة تلغي مسار الزمان والإنسان معا . تحيل الإنسان جثّة هامدة لا حراك فلا علاقة له بالبيئة والمحيط والزمن. فما هي حقيقة الموت؟ كتب اللّه على عباده الموت. (كل نفس ذائقة الموت ) آل عمران حقيقة ناصعة لا مناص منها ولا مفرّ؛ فهل هو أجل مدوّن في السّاعة البيولوجيّة للفرد فكما تحدّد محطاته البيولوجيّة والفيزيولوجيّة الهامّة من نمو ونضج جنسي وغيره. فهل تحدّد تبعا لذلك ساعة موته ؟

أم الموت حتميّة لمسار الإنسان في حياته ؛ فإستحالة أن يعمّر فينتهي بسبب بيولوجي فيزيولوجي جسماني أو بسبب خفيّ روحاني؟ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (67)سورة غافر _هل أنّ الموت نتيجة الوراثة وطبيعة الجسد وخصائصه البيولوجيّة والفيزيولوجيّة قدرة إحتماله ومناعته وتجاوزه أو تقهقره أمام الأمراض وأسبابه وأعراضه ؟ _ هل هو شأن غيبي خالص كتبه الله على عباده فتفارق الرّوح الجسد عند حلول الأجل المحدّد سابقا من لدن العزيز الحميد وما سبب الموت إلا تعلّة لتفسير الموت بسبب ؟( وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن اللّه كتابا مؤجٍلاًّ) آل عمران إنّ كتابة الأجل علمٌ صرف خاص باللّه وحده وهو العليم الخبير بشؤون عباده المطّلع على أسرارهم وأفعالهم.

فهل أنّ الكتابة بقلم القدرة علم سابق بسبب الوفاة فيسجّل موعد الوفاة طبقا لمسبّباته الموضوعيّة ضمن سياق حياة الفرد وصيرورته ؟ أو هو حكم وقضاء إلهي سالب للرّوح إذ أنّها وديعة فيستوجب بمقتضاه مفارقة الرّوح للبدن لمشيئة إلهيّة قاهرة ؟ (لا يُسألُ عمّايفعلُ وهم يُسأَلون ) سورة الأنبياء للإنسان بعد مادّي ترابي متمثّل في الجسد ذو القدرة المحدودة المتناهيّة وبعد روحي غيبي ذو قدرة لامحدودة لامتناهيّة ؛ إذن من الممكن أن يستهدف الموت وجود الإنسان الماديّ وقدرته المحدودة المتناهيّة ؛ فالجسد ينمو يتغيّر يتبدّل إذا هو يفنى وينتهي حتما ويموت كسائر الكائنات في دورة حياتها أمّا الرّوح بخلاف ذلك فهي لطيفة ربّانيٌة من أمر ربي بعدا غيبيّا متجاوز للمادّة لا تخضع للإعتبارات الفيزيائيّة فلا يمكن أن يحدّها زمان ومكان ويعدمها الموت من الوجود فهي من الكبير المتعالي متعاليّة على المادّة والزمان والمكان ولا يضرّها في شيء الموت بل هو يحرّرها من الجسد الفاني البالي الموت يلغي الوجود المادّي للإنسان وما السّاعة البيولوجيّة الداخليّة للفرد إلاّ لمحة وبريق من قلم القدرة ونظام محفوظ للآجال عند الخالق لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى . إن حقيقة الموت واضحة عند كلّ البشر فناء وتوقّف حياة الفرد في دنياه حسّا وحركة وغياب أبدي عن مسرح الحياة.

فالسّاعة البيولوجيّة تظلّ حدّا فاصلا للعمر الذي لن يتجاوزه الإنسان حتّى ولو لم يتعرّض لأيّ مؤثرات سلبيّة داخليّة أو خارجيّة وإن كان سليما معافى فنهايته الموت لا محالة . (واللّه خلقكُم ثمّ يتوفّاكُم) سورة النحل إنّ النفس البشريّة هي بين شهيق وزفير معنوي لا حسّي. فهي تستهلك نِعَمْ ورطابة ولطافة وحِلِمْ البيئة الربّانيّة وتطرح فضاعة ووضاعة ورداءة النّفس البشريّة شرّا وفسادًا وباطلا . (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أكْفَرَهُ) سورة عبس فالنّفس لا تعي حقيقة ما تفعل وفداحة جُرمَها ودناءتها لصبيانيتها ورعونتها وجهلها وظلمها وعماها . فمتى تصحو وتستفيق وتباشر معناها الظرفي بمعناها الأبدي تعلو بقيّمها الجوهريّة وبشعاع القبس الإلهي فتغادر شرنقة وجودها وقوقعتها البشريُة وتتخلّص من تمكّن العادّة وضعف الإرادة ؟؟؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات