يعيش قطاع التربيّة والتّعليم وضعا صعبا دقيقا وحالة مأسويّة وإنسداد افق ,أزمة حقيقيّة تعكس مدى تعقّد الأوضاع الإجتماعية والإقتصاديّة والسياسيّة . لقد عانى القطاع من الظلم والحيف وصل إلى الإعتداء اللّفظي والماديّ والمعنوي والتعدّي على حرمة المربّي بسبب تجييش الرأي العام زيفا وبهتانا وتعويما ونقضا للحقيقة من طرف فئة حاقدة معقّدة نفسانيّا لتدنّس تحرّكات ومطالب الأساتذة بقصفها المتواصل المغرّض الذي لا يرى الأستاذ إلاّ جشعا لئيما باحثا عن المال لا يهمّه إلاّ مصلحته وما عدلوا وأنصفوا في حكمهم وموقفهم كأنهم لم يجلسوا على مقاعد الدراسة ولم يدرّسهم معلّمين وأساتذة.
لا ينكر عاقلا الدّور الطلائعي لرجال ونساء التّعليم في أداء واجبهم ودورهم التّنويري وإضطلاعهم بنشر العلم والمعرفة فهم جسر لإيصال الأجيال المتعاقبة إلى مراتبهم ووظائفهم قبل ان يكون التعليم مصعدا إجتماعيا وسلّما للإرتقاء .
تبقى مهنة التّعليم مهنة نبيلة لمن تقلّد مسؤوليتها رغم بعض الهنات والنقائص والإخلالات وإن دانها الزمان وشانها اللئيم الوضيع , فالدول التي لا تحترم الإنسان وتعتبره مجرّد رقما وتستميله عند الإنتخابات وتستدعيه عند كل ضرروة فهو الوقود والشعلة والشمعة لتوفير الطاقة الضروريّة للطبقة المحظوظة ماديّا والمسيطرة سياسيا التي تتنازع وتتنافس من أجل المناصب والإمتيازات ودوام ثرائها والمحافظة على اسبقيتها وأمّا الطّبقة المعوزة الفقيرة فيصارع افرادها من اجل القوت والبقاء يخيّم عليهم الجهل والمرض والعجز نزع منهم التسييس وفقدوا كل إرادة حرّة .
إنّ الدول التي لا تحترم مواطنيها لا تسعى لتحقيق حريّتهم وكرامتهم فلا تستثمر في التّعليم والتربيّة ولا تنظر بإيجابية وإنصاف إلى كافة المربّين بشتى تصنيفاتهم وانواعهم تخالهم أدوات تنفيذ برامج تعليميّة وآلات منضبطة في قالب بيداغوجي-ديداكتيكي بحت فلا أحاسيس ولا مشاعر ولا أفكار ورؤى ولا إبداع وإنتاج كأنهم معزولين عن واقعهم فلا همّ لهم إلا قاعة الدّرس والتّدريس فحظهم في السياسة معدوم والسفينة تسير بدون توجيه منهم ومشاركتهم فقطاعهم مجال لتنفيذ البرامج وليس المساهمة في إدارة الشأن العام والتفكير في مصير ومستقبل الأجيال والبحث في منظومة القيّم.
قد فات من يستهين بالمربّين أن العديد منهم يساهم في تأثيث المشهد الثقافي ويشارك ولو بقدر ضئيل في السياسة نقدا وبناءا بافكارهم ووعيهم وخبرتهم وإدراكهم وحسّهم الوطني حبّا للوطن وأملا في تغيير الواقع. فمن غيرهم يخبر بدقّة إنعكاس الواقع السيء والقيّم السقيمة وشتّى المؤثرات والمنبّهات السلبيّة على نفوس ومشاعر المتعلّمين والأجيال المتعاقبة ؟
هم من يباشر المتعلّمين في قاعة الدّرس تدريسا وتقييما وتوجيها وإصلاحا يعلمون النقائص والعيوب والسلبيات والإيجابيات ويكتشفون تغيّر المفاهيم والقيّم عندهم يعالجون نشاطهم الذهني ويقومونه ويعدّلون نشاطهم النّفسي ما أمكن.
1-الوضع القاتم والتحدّي القائم :
إنّ ثورة الحريّة والكرامة لم تحقّق اهدافها فلقد قضت على راس النظام وبقيت جذور الدّولة العميقة ممتدّة تمتصّ وتستهلك خيرات الوطن تستأثر بالمنافع والمناصب وتحافظ على مصالحها لتزيد من معاناة الشعب والطبقة المفقّرة والكادحين. فلا أمل ولا بوادر لتحقيق نقلة نوعيّة تنقلنا من واقع الحيف والظلم والفساد إلى العدالة والحريّة والكرامة الحقيقية وإلى الإبداع والإنتاج. "
فكيف يستوي الظلّ والعود أعوج" ؟ لقد باشر الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي بعد ثورة لم تكتمل من هبّ ودبّ من هواة السياسة ومحترفيها من سنحت لهم الفرصة والحظّ للتموقع داخل نسيج وفسيفساء سياسي هجين ورافقتهم ابواق إعلاميّة دعائيّة غير بريئة بالمرة نشكّ في ولائها للوطن للتخريب المعنوي والقيمي المستمر للمجتمع ,
إنه توجيه وتنويم وتضليل للراي العام لتتحكم طبقة سياسية في الشأن العام وتحدّد مصير الوطن ومستقبل الأجيال وليتمادى من يحكم ويؤبّد حال الشعب المحكوم. هؤلاء هم حقيقة بؤساء السياسة وليسوا أوصياء على الشّعب والوطن.
لقد إرتفع التضخّم ونسب البطالة والتّداين والعجز وتضاءلت المقدرة الشرائيّة إلى أدناها لغلاء المعيشة والزيادات المتلاحقة ولقد تنامت الإحتجاجات بسبب أو بدونه وبمشعّلي ومشغّلي الفتنة وبماكينة الفساد أو بدونها ولقد تكاثرت وتناسلت الأحزاب بعضها من بعض حتّى وصل عددها ما يقارب 214 حزب بشتى ألوان الطيف الإيديولوجي من يمين ويسار ووسط وإتّخذت لها مسميّات عديدة مع غياب مشروع ورؤية واضحة للفعل والتغيير "الكثرة وقلّة البركة".
فقد عامة الشعب الثقة في السياسيين وزاد المشهد السياسي قتامة ولا امل في الخلاص فالطبقة السياسيّة في قطيعة تامّة مع مطالب الشّعب فعديد المواضيع المطروحة لإلهاء الشعب عن قضاياه الحقيقيّة ولا تلامس عمق الأزمة وإن عالجت ظاهرها.
واقع سيء وردئ لا يخفى على أحد سلبياته وهنّاته وعيوبه وبقي الواقع يراوح في مكانه والأمور مفتوحة على المجهول . فهل نفكّر في مصيرنا بعقولنا ونساهم بافكارنا وسواعدنا وممارستنا الواعيّة أو نلتزم السلبيّة والمتابعة من بعيد.
2-"ليست الدّنيا بالتمنّي " :
إنّ المدرسة ليست كما يبدو كيانا محايدا بل توجد في قلب الصراع والتّدافع الإجتماعي باطنيّا وهي تخدم بطريقة خفيّة ومسالمة مصالح الطبقة السائدة ,فالأهداف التربويّة العامّة تحمل في السياسات التعليميّة إلى جانب الأهداف الرسميّة المعلنة أهداف خفيّة تتجلّى في إنتاج وإعادة مظاهر الهيمنة الطبقيّة الموجودة فهي تحافظ على الأوضاع الراهنة وإن جمّلتها خارجيا ,فالمدرسة تؤدي نوعا من التطبيع الثقافي وترسّخ ثقافة الطبقة الحاكمة ,ولذلك لم نرى عبر الأزمنة التاريخيّة القريبة تغييرا جذريا وقائدا يحكم ويقرّر من عامة الشعب إذ من يحكم ويسود بقي يتحكّم ويقرّر وفي سدّة الحكم وقد ساهم التّعليم في صياغة عقول وأفهام المتعلّمين وتخرّج من بعد من اسعفهم الحظ وعاضدتهم عزيمتهم وجهدهم كتكنوقراط في شتّى المجالات تمارس دورها التنّفيذي لا تحيد عنه بعيدة عن إتخاذ القرار والمشاركة والتحكّم في مصير الوطن فلا همّ لأكثرهم إلاّ تحسين وضعيتهم الإجتماعيّة ومبلغ علمهم الرقيّ الإجتماعي.
لقد اصبح قطاع التّعليم لا يرى وقعه وحضوره إلاّ في الإحتجاجات والإضرابات والإعتصامات كردود أفعال على تدهور الوضع وسوء الحال وكان الأجدى التّفكير بعمق بطريقة مجديّة فعّالة للتغيير اصلا لا شكلا جوهرا لا عرضا ,فالحلّ والخلاص في منافسة الطبقة السياسيّة التي تحتلّ المشهد السياسي فقد افل نجمها وهفتت شعلتها وكره الشعب العام طلّتها لتعدّد عثراتها وتعثّرها وخداعها وتحكيم مصلحتها على مصلحة الشعب والوطن وضرورة إستبدالها بأحزاب جديدة مستقلّة حرّة لا سطوة للإيديولوجيا على تصرّفاتها وتوجّهاتها بل تستند إلى الوطن والشعب وفقه الواقع ومنازلاته.
إنّ قطاع التعليم برجاله ونسائه يمكن أن يكون ركيزة أساسيّة للتغييّر والقاطرة التّي تقود الثورة الثقافيّة لإكتمال ثورة لم تحقّق أهدافها ,ولا سبيل لنيل القطاع ما يحبّ حتى يغيّر الأحوال إلى ما يحب ,فالمعركة والصراع الحقيقي في المعاني والقيّم والمبادئ والمثل وليس من اجل الحصول على بعض الدنانير المعدودة التي تعطى باليمين وتسلب ياليسار ضرائب وزيادات حيلة ودهاء ,أليس من يحكم هو الذّي يقرّر؟
فمن النباهة والفطنة الإتّجاه لأصل الداء وليس المعالجة بمكافحة ومقاومة العوارض الثانويّة والفرعيّة وترك أصل الداء المستفحل في كل أجزاء جسم المجتمع. لمن يترك مصير الوطن ومستقبل الأجيال ؟ هل ستبقى إطلالة رجال التعليم ونساؤه يقتصر على ردود افعال تتمثّل في سعيهم لتحسين الوضعيّة الماديّة ورفع شعارات تعلو بها الحناجر عاليا لا تتجاوز تجمعّات وتحرّكات وإحتجاجات وإعتصامات الأساتذة ؟
من يجعل الشّعارات المرفوعة مسارات وليست مجرّد لافتات ومعلّقات ترفع وتنادي بها الأصوات ؟ إنّ الممارسة السياسيّة الواعيّة الناضجة والمسؤولة لقطاع التّعليم قادرة على تحقيق الأمنيات والآمال ,فالمربّون ليسوا موظّفين منفّذين لمناهج تعليميّة معدّة سابقا مخطّط لها على مقاس نظام سياسي حاكم بل هم أصلا مربّون وحارسون للقيّم ومساهمون لبناء الوطن .
إن وظيفة التعليم تجمع وتوحّد عموم الأساتذة كمباشرين لمهنة التّدريس ,مهنة تتعامل مع المعرفة والمتعلّمين وتسعى من خلال أنشطة تعليميّة تعلميّة لتحقيق أهداف تربويّة معرفيّة ومهاريّة سلوكيّة ووجدانيّة فالأجدى والأنفع القفز إلى إنجاز ثقافي إجتماعي وسياسي يحدّد بوصلة وسير المجتمع والوطن إلى مساره الصحيح وتوجيه السفينة إلى مرسى الآمان والإطمئنان على حاضر ومصير ومستقبل الأجيال ,فلقد أصبحنا نخشى المجهول وقادم الأيّام لإنعدام الثقة.
لعموم الأساتذة سديد النظر للإنخراط في مضلّة سياسيّة واحدة توحّدهم بنيويّا كما يوحّدهم التّدريس وظيفيّا. الأساتذة خزّان إنتخابي وثقل تاريخي لا يستهان به للتغيير ومن المنطقي ان يباشرون أمورهم مستقلّين عن كل الأحزاب أحرار فاعلين ناضجين للفعل والتغيير ومساهمة جديّة في تحديد مصير الوطن.
عليهم سدّ الخواء والفراغ الفكري والسعيّ لإنتاج ثورة ثقافيّة دعامة لبناء تونس جديدة تونس قيّم مبادئ علم وعمل وتجنيب البلاد الإنزلاق إلى مستنقع الفوضى والتّقاتل تحت عناوين مختلفة شعلتها الفتنة وشعارها فرّق تسد . إنّ اللحظة التاريخيّة حاسمة وفارقة وكلّ يتحمل مسؤوليته ويحكّم ضميره ويسعى جاهدا لنصرة الوطن.