في الكتاب الرابع من تاريخه، عرض "هيرودوت" لأحوال "السكيثيين"، وهم أمّة محاربة قدمتْ من أواسط آسيا، وجنوب روسيا، واستوطنت حوض البحر الأسود بكامله، وجزءاً كبيراً من آسيا الصغرى، وقد عُرفت بالجَلَد والترحّل، وأسست لها قوة معتبرة نحوا من خمسة قرون، بداية من القرن السابع قبل الميلاد إلى أن توارى أثرها عن العيان في القرن الثاني قبل الميلاد بعد أن خاضت حروبا ضد الفرس والإغريق، فآل أمرها إلى ما يؤول إليه مصير الأمم المحاربة بعد أن تُنهك قواها ومواردها في الغزوات والحروب.
عرف عن "السكيث" الدهاء في الحرب، وإجادة فنون القتال بأساليب لم تخطر لسواهم. ولما كانوا دائمي الترحال، فلم يعرفوا الاستقرار النهائي. وما يلفت الانتباه هو أن عبيدهم بجملتهم كانوا من أعدائهم السابقين الذين أسروهم في غزواتهم، وخشية هروبهم، كانوا يطفئون أبصارهم، ويذهبون إلى الحرب مطمئنين إلى أن عبيدهم لن يتمكنوا من الفرار أو الانقلاب عليهم.
ولما كان "السكيث" قد جعلوا من الحروب عادة لا ينثنون عنها، فقد كانوا يغيبون عن نسائهم مددا متباينة في طولها دونما تفكير بما تفضي إليه هذه الغيبات، وفي إحدى حروبهم مع "الميديين" عادوا إلى ديارهم بعد غياب دام ثمان وعشرين سنة، ووجدوا في انتظارهم مشكلة كبيرة تمثّلت في جيش كبير معاد يعترض دخولهم إليها؛ و"كان السرّ في ذلك أن نساءهم اللواتي أزعجهنّ غياب أزواجهن فترة طويلة، تخلّين عنهم، وتزوّجن العبيد الذين بقوا في البلاد". اقترنت "السكيثيات" بالعبيد العميان، وخلال مدة غياب الأزواج أنجبن فتيانا مبصرين، انحازوا لآبائهم، وورثوا العبودية عنهم. حدث كل ذلك في غياب رجال شغلوا بالغزو دون الاهتمام بأهلهم.
لم يكن العبث بعيون العبيد طارئا، فقد مارسه "السكيثيون" تحسّبا لما يؤديه الغياب الطويل عن نسائهم من أخطار، واتبعوا في ذلك طريقة غريبة، إذ اعتادو "على أن يجعلوا عبيدهم يفقدون البصر، وهذا أمر يتصل على نحو ما بالحليب الذي يتناولونه، وطريقتهم في تحضيره هي التالية: يقحم السكيثيون في شرج الفرس أنبوبا من العظم له شكل الناي، ثم يقوم أحدهم بالنفخ فيه، بينما يتولّى آخر حلب حلب أثدائها؛ ويقصدون بذلك، كما يذهبون إلى القول، تضخيم العروق في جسم الفرس بقوة الهواء، فيسترخي الضرع ويدر الحليب. ومن عاداتهم أن يجعلوا العميان يقفون في دائرة، ثم يصبون الحليب في قصعات من الخشب، ويأخذون في خفق السائل، فيتناولون الطبقة الطافية على السطح، ويعتبرونها أفضل ما في الحليب ويعرضون عن الراسب الذي لا يرون فيه أي فائدة. أما السبب في أنهم يجعلون أسرى الحرب لديهم عميانا، فيتصل بكونهم شعبا بدويا، وليس زراعيا"
كان غيابهم في حرب الميديين طويلا زاد على ربع قرن، ونتج عنه جيل تحدّر من أسرى محاربين وقد أصبحوا عبيدا مكفوفين، ونساء مللن الانتظار الطويل، فلذن بعبيدهن "من اجتماع هؤلاء العبيد بنساء السكيتيين نشأ جيل جديد عازم على منع الجيش من العودة إلى أراضيهم، بعدما علموا بظروف ولادتهم، وكان أول إجراءاتهم في الدفاع أنهم حفروا خندقا عريضا يمتد من جبال توريك(=جزء من جبال الكربات الغربية) حتى الجزء الواسع من بحيرة مايوتيس(=بحر أزوف المتفرع عن البحر الأسود) وعلى امتداد هذا الخندق اتخذوا مواقعهم، وهنالك قاوموا كل المحاولات لاقتحام دفاعاتهم وشقّ الطريق إلى الداخل. وقد دارت بين الطرفين عدة اشتباكات، دون أن يفلح الجيش المهاجم في التقدّم".
فوجئ "السكيثيون" بأعداء أشداء نتجوا عن عبيدهم العميان ونسائهم الخائنات، ولم يفلحوا في هزيمتهم، ومعظمهم أصبحوا من المحاربين الفتيان الذين ولدوا خلال غيابهم، وتلك حال جديدة لم تكن في واردهم، فإن مضوا في الحرب فكأنهم يحاربون أولادا لهم من نسائهم وعبيدهم، فكان أن اقترح أحدهم حيلة ينتصرون بها عليهم من غير قتال "نحن الخاسرون في هذه الحرب على أرقّائنا، كيفما كانت نهايتها، إنْ في الضحايا التي نتكبّدها، وإن في ما نكبّدهم؛ فكلما قتلنا منهم نقص عدد عبيدنا، متى استعدنا سيادتنا عليهم. والرأي عندي أن نطرح الرماح والأقواس والسهام، ولنمض إليهم بالسياط في أيدينا. فمتى رأونا نحمل السلاح ظنّوا أنفسهم، طبعا، أندادا لنا، وقاتلونا كما نقاتلهم، ولكن إن وجدونا نُطبق عليهم بالسياط تذكروا مكانة العبيد، كما هم، ومتى صارحوا أنفسهم بهذه الحقيقة وجدتموهم لا يقوون على مواجهتنا".
استندت خطة الحرب إلى التأثير النفسي لفكرة العبودية، وإعادة بعثها في نفوس العبيد الذين لم يمض عليهم طويل وقت في تذوق طعم الحرية، فما زال خيالهم مشبعا بالاذلال، ومازال الآباء العميان على قيد الحياة يذكّرون أبناءهم بأنهم في منزلة العبيد، ومع أن نسغ التبعية لا زال يجري في نفوسهم، فلم ينسوا أنهم يتحدّرون عن أسرى حروب سُملت عيونهم، وقد ضاقت نفوسهم بما هم عليه من ذلّ ومهانة، وإلى ذلك فإن الغياب الطويل لسادتهم جعلوهم يحلّون محلهم في الفراش. والراجح أن "السكيثيين" عرفوا كل ذلك حينما جوبهوا بأولاد عبيدهم لا يقبلونهم شركاء في حياتهم الجديدة، وعلى هذا لم يأخذوا بمبدأ القوة، إنما أخذوا بالدهاء الذي عرفوا به "لقد وقع الاقتراح موقعا حسنا عندهم فأخذوا به، فكان النجاح حليفهم؛ إذ أُخذ المدافعون بهذا الأسلوب، ونسي المقاتلون موقعهم كجنود، فاستداروا على أعقابهم وأطلقوا أرجلهم هاربين".
مع اشتهارهم بالحرب، وحركات الغزو السريعة على ظهور خيولهم، وظهورهم أمام أعدائهم مرة، وخلفهم مرة أخرى، وإلى جنباتهم في مرات كثيرة، عُرف "السكيثيون" بالحكمة، وربما كانوا أحكم الأقوام في تلك الفيافي التي تحيط بالبحر الأسود، ولم يفت "هيرودوت" الإشارة إلى ذلك، فقد وصف القبائل في تلك المناطق بأنها "من أشد الأقوام جهلا على الأرض"، لكنه استثنى السكيث، والأنكاريس "لا نعرف شعبا من شعوب البحر الأسود قد اشتهر بالحكمة، ولا علمنا برجل من تلك الأصقاع، سوى من كان من السكيث أو الأنكاريس، وكان من أهل المكارم. ولكن السكيثيين توفرت لهم خصلة، هي الأهم في حياة البشر، واحتفلوا بها أكثر من أي قوم على وجه البسيطة. عنيتُ حماية أنفسهم. ذلك أنهم انتهجوا في حياتهم نهجا لا يمكن لأي غاز إلا أن يلقى فناءه هناك، أما إذا شاؤوا تفادي الاشتباك مع العدو فلن يمكن له أن يقابلهم أو يكون له احتكاك بهم". على أن مأثرتهم الكبرى هي إطفاء أبصار أسراهم، ثم التغلّب عليهم حينما خيّل لهم أنهم قادرون على مقاومتهم، فقد لاذوا بإحدى حيل الحرب التي برعوا فيها، وانتزعوا ظفرا مؤكدا.
تطرح قضية العبيد العميان موضوع التبعية وما يتأدّى عنها من عمى نفسي يرغم صاحبه لأن يبقى تابعا حتى لو توهّم أنه أصبح حرا. من الصحيح أن الفتيان كانوا مبصرين، وينتسبون لأمهات حرّات، ولكن قرب عهدهم بالعبودية، ورسوخها في نفوسهم، والانتساب الأبوي الذي يُحيي فيهم تبعية العبيد للسادة، جعلهم محاربين مبصرين في الظاهر وعبيدا مكفوفين من الداخل، وبتغيير بسيط في قواعد الحرب فقدوا إرادة كونهم مقاتلين يبتغون الحرية، وانتهوا إلى ما كان عليه آباؤهم. لم يمض "هيرودوت" في وصف مآل هؤلاء المحاربين العبيد، ولا الطريقة التي انتقم بها "السكيثيون" للخيانة التي تعرضوا لها من نسائهم وعبيدهم، ويرجّح أن يكون انتقاما أعمى، تضاعف به عدد العميان عما كان لديهم قبل.