دخل مكتبه صباحا و ما كاد يجلس حتى وافته سكريتيرته بكومة من الوثائق قصد إمضاءها و الإطلاع عليها و قبل أن تغادر كرر على مسامعها الجملة المعهود "لست مستعدا للقاء أي كان فأمامي عمل كثير "
أشعل سيجارته و ترشف قهوته السوداء ثم أرسل في فضاء المكتب سحابة كثيفة من الدخان قبل أن يبدأ في تقليب الوثائق التي أمامه ... و عيناه مصوبتان على التلفاز الجاثم في الركن هناك …
"حالة إحتقان قصوى في مناطق مختلفة" ... "عاجل : الأمن يرد على الهتافات بالغاز المسيل للدموع " ... "مواطنون في السوق المركزي يتذمرون من غلاء الأسعار التي وضعها الباعة و الباعة يستنكرون الترفيع في قيمة الأداء و ترفيع المزودين في السعر دون سابق إعلام و المزودون يؤكدون أن وزارة الإشراف هي المشكل ... و الوزير في مكتبه يشكو كثرة المشاكل و قلة الحلول " .
إمتدت يده إلى التلفاز تطفئه و إلى الملفات تتحسسها ... هذا الملف تحت عنوان "بالغ الأهمية" حشر بالمطالب الفورية لقيادات في الحزب ... تشغيل هذا و مساعدة ذاك و تمكين تلك من رخصة ما ... ضغط على الزر العجيب فدخلت السكريتيرة على عجل فمدها بالملف قائلا "تصرفي ..." فأومأت برأسها تعبيرا على القبول و خرجت بالملف لتجري مكالمات هاتفية لا حصر لها تنتهي بأن ينال كل ذي جاه مأربه …
على المكتب ملف ضخم ... ضخم جدا حشر مطالب لا حصر لها ... فتحه و قرأ "سيدي الكريم أنا مواطن لا بيت لي و لا شغل و ليس لي ... " أغلقه بعنف و ضغط الزر من جديد و دخلت السكريتيرة من جديد فدفع الملف إليها قائلا "ضعيه على مكتبك سأستلمه عند الحاجة فخرجت و ألقت به في الخزانة إلى جوار إخوته فهي تعرف أنه لن يطلبه من جديد و كذلك دأبه كل يوم…
رن جرس الهاتف فرفع السماعة و جاءه صوت جعله يعتدل في جلسته بلا مبرر …
_إحتراماتي سيدي
_ما الجديد؟
_كل شيء على ما يرام
_إن كان كل شيء على ما يرام فلماذا يبث التلفاز هذه الأخبار
_هؤلاء أفاكون يا سيدي و كل أخبارهم زيف و تضليل
_تضليل؟ الشاب الذي سقط بالرصاص ... تضليل؟
_شاب؟
_هذا جيد ... أنت لا تكلف نفسك حتى عبء متابعة النشرة…
_سيدي...
_كف عن الكلام وأصدر بيانا يندد بالواقعة ويطلب من الأمن احترام المواطنين
امتدت يده المرتجفة إلى القلم تخط نص البيان والسماعة لا تفارق أذنه "إحترام المواطنين وتمكينهم من التظاهر في كنف الحرية ..."
_هل أتممت كتابة البيان
_نعم
_إتصل الآن بالوحدات الأمنية وأطلب منهم تفريق المتظاهرين بأي شكل ... لهذه الدولة هيبتها ... ماذا يظن هؤلاء الكلاب ... تصرف "
لم يمهله لحظة ليتكلم و آنقطعت المكالمة فأجرى الإتصال المطلوب و عاد يقلب الأوراق ... ملف كبير آخر ... أشعل سيجارة أخرى و فتحه ... قرأ ... "سيدي الكريم عرفت أنك لن تقرأ مطلبي السابق فكتبت تحسبا لكل طارئ هذه الورقة ...
أنا يا سيدي لا أملك بيتا و لا شغلا و مع ذلك فأنا مازلت حيا أرزق و ذلك لأنني إقترضت من كل من حولي و تداينت و تحيلت بشتى الأساليب حتى صار حسابي عند الجزار و الخظار و العطار طويلا إستحال معه باب بيتي طبلا يدقه الدائنون كل حين و صار وجهي مطلوبا لدى كل من يعرفني ... سؤال وحيد وددت أن أعرف إجابته سيدي ... هل يجوز شرعا أن نساوي الأنثى بالذكر في الميراث و هل ستدخلون الإنتخابات القادمة بنفس الحزب أم أنكم قررتم تغييره فأنا آليت على نفسي أن لا أصوت إلا لكم و خفت على صوتي أن يناله _لا قدر الله_ علماني فاجر...
إبتسم بثقة و قام من مجلسه و شرع يطوف في المكتب بلا هدف حتى وقعت عيناه على كتاب لم تلمسه يد "برنامجنا الإنتخابي لسنة 2014" ... فتحه ... ألقى نظرة على إحدى الصفحات "كرامة المواطن أولويتنا و خدمته واجبنا ... شغل للجميع و ثروة للجائع و الفقير و صنبور ماء لكل بيت و دفء للشتاء و ..."
عاد و الكتاب بيساره و رفع سماعة الهاتف
_مطبعة الصدق؟
_تفضل سيدي ... أوامرك
_غيروا العنوان و لون الغلاف "برنامجنا الانتخابي 2019" أريد أن ترسموا على واجهة الكتاب شجرة …
_نخلة؟
_لا لا ... زيتونة ... نعم زيتونة
_و المحتوى؟
_أبق عليه ... فالوعود لا تتغير
و قهقه الرجلان طويلا ...
هذا النص لن يقتلك ... إن لم تفهمه ... فأنت ميت فعلا.
أحداث النص خيالية و أي تشابه له مع الواقع مقصود بشدة.