عندما كنتُ صغيرا ، كنتُ أقترح دوما على أبناء الحيّ أن نلعبَ ألعابا حربيّة بسيوفٍ من خشب أو مسدّسات من خشب .. و حين كبرتُ اكتشفتُ أنّ الثّورة الّتي كنتُ أخطِّطُ لها منذ الصِّغر و من أجلها كنت ألعبُ تلك الألعاب .. كانت هي أيضا لعبةً من الخشب .
حين بلغتُ الخامس و العشرين من عمري ، تخلّيتُ إلى الأبد عن جميع مخطّطاتي السريّة لإشعال حربٍ ثوريّة عاصفة لا تُبقي و لا تَذَر .. فقد أدركتُ أنّ الثوّار جميعا قد إختفوا من على سطح العالم و أنهم لم يتركوا على هذه الأرض إلّا كائنات من الخشب و لغةً ثوريّة من أرقى أنواع الخشب .
و لذلك حملتُ جميع أكياس الورق الّذي كتبتُ عليه مشاريعي لتغيير العالم و أحرقتُ ذلك كلّه في الشّارع الرئيسي أمام مقرّ الأمن و مقرّ الحزب الحاكم و على مرأى من الجماهير الخشبيّة الّتي كانت ستقبض المال مقابل الوشاية بي لو أنّي أشعلتُ نار الثّورة .. و هي نفس الجماهير الجائعة الّتي باعت باتريس لوممبا و تشي غيفارا و أسامة بن لادن .. و كلّ الحالمين بعالم أفضل طيلة العقود الماضية .
لقد كانت محرقةً كبيرة لأطنان من الورق و كثير من الخشب .. و كانت الجماهير تصفّق فرحا بلا أيّ مبرّر ، و ذاك هو دَأْبُ الجماهير في كلّ مكان .. و كانت الكلاب و القطط و النّمل تتجمّع حولي و تبكي رثاءً لحالي .. حتّى خرج البوليس و أخذني إلى الزنزانة .
في زنزانتي كنت أسمعُ نباح الكلاب و مواء القطط و كنت أعرف أنّها تبكي لأجلي .. و في غفلةٍ من الدّهر تحوّلت من شدّة الألم و الغربة إلى عصفور صغير و حزين فطِرتُ خارج زنزانتي و سبحتُ في الفضاء الواسع لأحلامي : كنتُ أراقب البشر من ارتفاع شاهق للأوهام .. فرأيتُ أطفال غزّة ينامون دون أحلامهم .. و رأيتُ أطفال سوريا يركلون براءتهم في وجه البشريّة جمعاء .. و رأيتُ أطفال الصّومال يلعبون بعظامهم البارزة و قد كتبوا عليها : " مرحى مرحى ، حقوق الإنسان " ..
لقد كان سفرا مُضنيًا .. حيث تجمّعت خلفي كل عصافير الكون و صرنا نخترق الأجواء و نشاهد خراب هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه أمّي الماجدة في سنوات الفقر الماحقة الكثير من السّجائر و البيض الطّازج لعتاة المجرمين في موانئ البؤس و القهر .
في آخر الليل ، كنت أنام في المقابر .. فيخرج الموتى من تحت التّراب و رائحة الفناء تسيل من أجسامهم فيبكون حتّى الفجر حولي وهم يحدّثونني عن آلام المرميّين في القبور و عذاباتهم المُضنية .. و يتوسّلون أن أنقذهم من مصيرهم المشؤوم .. فأبكي معهم بكاء مرّا و أنا أعزف لهم على البيانو ألحان موزار و شوبان و بيتهوفن .. فتُسكِرُهم الموسيقى و تحوّلهم إلى سوائل سوداء و مُرَّة تذوب في التّراب من جديد .. و أظلّ وحدي أعزف حتّى الصّباح موسيقى عصفور غريب في جنازة العالم الملوّث بالأوهام .. حالما إلى الأبد بثوراتٍ دون خشب .