لم أصدّق في البداية ما تناقلته الشبكات الاجتماعية بخصوص نص التمرين الذي قُدم في امتحان مادة المحاسبة بأحد معاهدنا العليا. ذلك أن الأمر يبدو مدعاة للشك في مصدر الخبر وصياغته وناشره، وحيث أن المستهدف من كل ذلك هو جودة التعليم العالي العمومي ومستوى شهائدنا العليا، في خدمة مدفوعة الأجر أو حتى مجانية لفائدة التعليم العالي الخاص. أو هذا ما يحصل في الأخير، وإلا فمن تراه قادرا على الدفاع عن "الجامعة الشعبية" في الوقت الذي ينحدر المستوى إلى حد غير مسبوق.
أستاذ مساعد في المعهد العالي للتصرف بسوسة يقدم نص امتحان يذكر فيه أن متصرفا بشركة اسمه المرزوقي اشترى قوارير ويسكي وحمصا وسمكا. وهو ما يذكر تماما بمحتوى الحملة الشرسة التي تعرض لها الرئيس المرزوقي خلال توليه رئاسة الجمهورية. بمعنى أن الأستاذ المساعد المذكور لم يستطع أن يخرج من شبكات العنكبوت ولا مساحات الفيسبوك، ولا استطاع أن نسي مزايدات النبارة، رغم مرور ما يزيد عن سنة كاملة من خروج الرئيس المنصف المرزوقي من قصر قرطاج.
ربما يتفق الكثير من الجامعيين على أن ما أتاه زميلهم لا يُشرّف أحدا منهم ولا يشرف الجامعة، وهو كذلك لا يعبّر عن سلوك حضاري ولا حتى سويّ، بقدر ما يكشف عن رداءة مقرفة وعطب بليغ في هيكل القيم. وحتى لو اقتصر الأمر على المعني لما كان هيّنا، وهو من المفترض أن يكون من علماء البلاد ونخبة نخبتها، فما بالك به لو أعطانا دليلا على تدني مستوى التعليم العالي بعد أن كان الكثير يشتكون من تدني مستوى التعليم في ما دونه من مراحل، وها نحن نكتشف أن الداء قد وصل هكذا إلى الجامعة حيث تتلقى أجيال المستقبل تكوينها. فما الذي يمكن أن يقدمه لهم مثل هذا الأستاذ المساعد؟ وما هي الإضافة التي قدمها للبحث العلمي؟ للإجابة على ذلك بحثت عن ورود اسمه ضمن محرك البحث غوغل سكولارز (Google Scholars)، لعل إضافاته للبحث العلمي تشفع له، فلم أجد له أثرا يُذكر، كما لا يظهر اسمه كباحث على أي من محركات البحث الأخرى. وهو ما يعني أنه لم يكن إلا مدرّسا، وحتى في التدريس لا يدل نص التمرين المشار إليه إلا على رداءة مكثفة على جميع الواجهات.
بل أن وجود مثل هذا الأستاذ المساعد في إحدى الجامعات العمومية يفسر كأوضح ما يكون الرتبة المتدنية جدا لمؤسساتنا العليا ضمن الترتيب العالمي للجامعات. وللتدليل على ذلك تكفي العودة إلى ترتيب واب متريكس (webometrics) العالمي للبحث عن رتبة المعهد العالي للتصرف بسوسة حيث يشتغل هذا المدرّس، فلا نجده ضمن الخمسمائة مؤسسة الأولى طبعا، ولا ضمن الألف الأولى، وإنما هو يقبع في الرتبة 18832. نعم ليس قبل ذلك، حيث ترك المجال لكي تتقدم عليه آلاف المؤسسات العليا التابعة حتى لأفقر الدول في العالم. هذا يدل على أن أزمة البحث العلمي في بلادنا تنبع من أزمة القيم.