يروي صلاح خلف ابو اياد في كتابه "فلسطيني بلا هوية" ان البداية كانت من عند بضع مئات من أفراد ميليشيا كميل شمعون التي عاد الكتائبيون بعد خمسة أيام فانضموا إليها بعد تردد – بمحاصرة المخيم بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان بعشرة أيام وببديهة الحال، فإنهم انتظروا مبادرة دمشق ليقوموا بهذه المذبحة، ودليلي على ذلك هو رد فعل اليمين المسيحي على عرض التسوية الذي قدمته المقاومة مع كمال جنبلاط أليهم في 25 أيار أي قبل تدخل الجيش السوري بأسبوع، وكان هدف الصيغة المقترحة هو بالضبط منع تدخل دمشق العسكري فقد عرضنا الانسحاب من كافة المناطق التي فتح في الجبل على أن نتركها تحت إشراف قوات تكفي لشن هجوم مضاد ولتحطيم الحصار، لكن الجيش السوري كان مع الكتائبيين وسلم هذا الاقتراح الذي حررت صيغته بيدي في رسالة إلى بيير الجميل بواسطة معاوني أبو حسن سلامة، إلا أن رئيس الكتائب لم يرد على رسالتي غذ كان ينتظر خشبة الخلاص الدمشقية وفرصة تحقيق انتصارات عسكرية.
واضاف في كتابه.... الحقيقة هي أن تل الزعتر كان مشروع إبادة بالأسلوب الفاشي الصرف وقد كان بيير الجميل وكميل شمعون يعرفان أننا لا نملك أية وسيلة فعالة لتحرير مخيم اللاجئين المطوق مع التجمعين المجاورين له والمطوقين تطويقا كاملا بواسطة حزام مسيحي يسيطر عليه الانفصاليون، وكان لدينا في المطلق قوات تكفي لشن هجوم مضاد ولتحطيم الحصار لكن الجيش السوري كان لا يزال رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدتاه معه قبل ذلك ببضعة أيام يشل حركتنا في شمال لبنان وفي جنوبه معا بحيث أن سحب المقاومة لقواتها من المراكز التي تحتلها في مواجهة القوات السورية كان سيشكل كارثة، غير أننا أسهمنا في الدفاع عن المخيم بقصف محاصريه وبمحاولة تدمير مدافعهم المبعثرة في المدينة، وعلى التلال المجاورة حيث كنا نتمكن من تحديد مواقعها بفضل المعلومات اللوجستيكية التي كان المسئولون العسكريون في تل الزعتر يزودونا بها بواسطة الراديو وبفضل هذا الحزام الناري الذي أنشأتاه لم يتمكن المحاصرون من اقتحام المخيم.
غير أن المخيم كان مهددا من الداخل بأكثر مما كان مهددا من الخارج ذلك أن الحصار الذي دام أكثر من خمسة أشهر أفضى بالأهالي إلى عتبة المجاعة بل أن ما كان أكثر قسوة وفظاعة هو نقص الماء وشحه، فبعد أن نجحت الميليشيات في تفجير شبكات المياه لم يبق أمام أهالي تل الزعتر سوى بئر ملوثة شحيحة المياه وكان البئر معرضا لسيل من القذائف المنهمرة على المخيم فكان لا بد من إرسال حملات بالمعنى الحقيقي للكلمة، للبحث عن الماء وكانت كل محاولة من هذه المحاولات تذهب بحياة شخصين أو ثلاثة بحيث أن الناس في تل الزعتر اعتادوا على أن يقولوا أن كأس ماء تساوي فعلا كأسا من الدم. وقد نال ذلك كثيرا من صغار الأطفال وبطبيعة الحال فإنه لم يكن في الوارد تزويد الرضع بالحليب كما أن كمية الخبز والماء الموزعة على العائلات كانت أقل من أن تكفي صغار السن، حتى أننا كنا نسمع عندما نتحدث إلى مسئولي المخيم بالراديو أنين وعويل الأطفال وعويل الصارخين " أنا عطشان يا أمي " وعلى هذا فقد مات بخلاف البالغين حوالي ثلاثمائة طفل ورضيع جوعا وعطشا أبان فترة الحصار.
ولم نكن ندرك خطورة الوضع في بداية المعركة إلى أن اتصل بنا ذات يوم طبيبان من أطباء المخيم لطلب النجدة وكان يصران على الحديث مع مسئولين سياسيين من المقاومة وليس مع مسئولين عسكريين وأحسست بغيظهما وتيجانهما عندما قالا بلهجة جافة " فإذا كنتم لا تستطيعون التوصل لوضع حد لهذه المجزرة فجدوا على الأقل وسيلة لتمويننا بالماء والغذاء".
واضاف في كتابه... وما لبثنا أن كونا مجموعات صغيرة تتألف كل واحدة منها من قبضة من الرجال وذلك لمحاولة التسلل وراء خطوط العدو والوصول إلى تل الزعتر فكان على هذه المجموعات وهي تلتف على المحاصرين أن تزحف ليالي بأكملها على الهضاب المجاورة للتل وعبر الحقول والغابات وكان يستحيل على أفرادها أن ينقلوا الماء كما أن أسلحتهم وذخائرهم لم تكن تتيح لهم أن يحملوا كميات هامة من الأغذية وكثير منهم استشهد في الطرق وأما الآخرون فلم يكونوا يقدموا للمحاصرين أكثر من تسكين مؤقت كما أنهم لاضطرارهم إلى البقاء في المخيم كانوا يزيدون عدد الأفواه المحتاج للغذاء وفي اليوم الخامس من القتال جاءني الأب يواكيم مبارك – وهو كاهن ماروني مفعم بالمشاعر الإنسانية ومعاد فوق ذلك للتدخل العسكري السوري، ليقدم لي اقتراحا بوقف حد للمعارك ويقتضي الاقتراح بأن يستسلم فدائيو تل الزعتر بأسلحتهم إلى ممثلين عن الصليب الأحمر الدولي ينتظرونهم عند أبواب المخيم وبعد ذلك يتم إخلاء الأهالي ضمن أفضل الشروط الممكنة، فرفضت اقتراحه على الفور لأنه بدا لي غير لائق بمقاتلين في مثل بسالة مقاتلينا، وتقدمت باقتراح مضاد يقضي بإخلاء الجرحى والنساء والأطفال – أو على الأقل الأطفال بدون أمهاتهم – بينما يظل الرجال جميعا يواصلون المقاومة في داخل المخيم فرفض ثم تلقينا عدة عروض أخرى بعضها أذل من بعض إذ كان القوم يسعون إلى جعلنا نستسلم استسلاما شائنا مخجلا.
ويضيف خلف في كتابه... لا ريب في أننا كنا سنقبل موقفا أكثر مرونة فيما لو أن المسئولين السياسيين والعسكريين في تل الزعتر، أو فيما لو أن المحاصرين فيه عامة أبدوا مثل هذه الرغبة لكنهم على العكس من ذلك كانوا أكثر تصلبا منا وكانوا يقولون لنا أن تل الزعتر بعد فلسطين هو وطننا بالتبني وأنهم لن يغادروه إلا محمولون على الألواح، وعندما تفاقم الوضع وفقد فيه كل أمل ذهب أبو محسن – الرئيس السياسي للمخيم – إلى ولده مصحوبا بكافة أفراد العائلة يتضرع إليه رفع العلم الأبيض، فكان أن استشاط محسن غضبا، وطرد أباه باحتقار ثم أبى أن يكلمه إلى أن انتهت المعركة.
وقد دق احتلال مخيم جسر الباشا الفلسطيني في 29 حزيران ثم احتلال حي التبعة اللبناني المسلم بعد ذلك في 6 آب ناقوس تل الزعتر، فتم عقد اتفاق بواسطة ممثل الجامعة العربية في 11 آب حول أشكال الإخلاء التي ستطبق من الغداة وكانت الشروط مشرفة نسبيا حيث أن المحاربين سيغادرون المخيم مع المدنيين في آن معا، دون أن يستسلموا للميليشيات المارونية بل تتكفل بهم قوة السلام العربية والصليب الأحمر الذين يزودانهم بوسائل النقل اللازمة. غير أن أعدائنا دفعوا غدرهم الوحشي إلى غايته وذلك عندما فتحت ميليشيات كميل شمعون وبيير الجميل النار على جميع سكان تل الزعتر وهم يغادرون المخيم عزلا من السلاح وفقا للاتفاق المعهود، حاصدين بضع مئات من الأشخاص بينما انقض آخرون على داخل المخيم وراحوا يطلقون النار على كل من يصادفون، وفي الوقت نفسه راح سواهم يوقفون الناقلات التي تراكم فيها الناجون على الحواجز المنصوبة على الطرقات وينتزعون من داخلها بعضا منهم، وخاصة حديثي السن الذين يشتبهون في كونهم فدائيين ثم يقتلونهم بوحشية أو يقتادونهم إلى جهات مجهولة وهكذا فإن "ميليشيات اليمين المسيحي" اغتالت في يوم واحد عددا من الأشخاص يزيد على عدد ما قتلوه خلال الاثنين والخمسين يوما من حصار تل الزعتر وبالإجمال فإن عمليتهم هذه أوقعت حوالي 3000 ضحية في حين أن الألف فدائي الذين كانوا بالمخيم لم يستشهد منهم سوى عشرة فقط، وسلم الباقون بعد أن أفلحوا في الفرار عبر الغابات والهضاب المجاورة مستفيدين من الفجور الدموي الذي ساد في ذلك اليوم المقدور يوم 12 آب أغسطس.
ولا يخالطنا الشك في أن المدافعين عن تل الزعتر أضافوا صفحة مجيدة إلى تاريخ الشعب الفلسطيني، وستظل بطولاتهم وبطولة سكان المخيم أسطورة حية تلهم شعبنا أبدا على مدى الأجيال القادمة. لكن جلجلة تل الزعتر أفادت في أنها أظهرت مرة أخرى، أنه ليس في وسعنا الاعتماد على أحد غير أنفسنا فقد أدار العالم المتحضر عينية بخفر واحتشام عن المجزرة، غير أن الفضيحة الحقيقية وقعت في موضع آخر، عنيت العالم العربي الذي لم ترفع دولة صديقة ولا عدوة أصبعها لتنقذ خمسة وثلاثين ألف " أخ " من أبناء تل الزعتر وليس في وسع أحد أن يقنعني أن مئة مليون عربي يعجزون عن كسر حصار فرضه بضع مئات من الأشخاص، أو عن أن يرفعوا صوتهم ليمارسوا به الضغوط، إن لم يكن على الميليشيات فعلى سوريا التي تحميهم على الأقل".