لقد شكّل مفهوم القضاء والقدر عبر الزّمان ركنا خطيرا من أركان الإيمان وزاوية حادّة تتأرجح فيها الأفئدة والنّفوس والعقول بين التّسليم والإنكار فهو عند الغالبية من البشر خلفيّة عقائديّة ومهدّئا ومسكّنا عند نزول المحن والمصائب وينشر عليه جميع الإخفاقات والإخلالات والوقائع والحوادث والنتائج السلبيّة ليلتجأ بالقدر ويحتجّ به عند المصائب لا عند المعائب فالنّعم تنسى ولا تذكر غالبا وعند بعض الناس الجاحدين المبطلين جبرا وقهرا وإنعداما للحريّة والإختيار فهم يحتجّون بشتّى الحجج للتنصّل من المسؤوليّة فمن قائل " لبست ثوب العيش لم استشر وحرت فيه بين شتّى الفكر وسوف انضو الثّوب عنّي ولم أدرك لماذا جئت أين المفرّ" ؟
وقائل " أنا مسيّر مجبور على حالي وأفعالي " وآخر قائل " ماذا اخترت المولد ,الأب , الأم , العائلة , الشّكل الطول والنّظام الإقتصادي أعيش فيه حتّى أكون حرّا".
هل الإنسان مخيّر أو مسيّر ؟هل الماشي من يختار الطريق أم الطريق هو من يختار الماشي ؟ هل نحن اقلام والإقتدار أصابع ؟ وهل الجبر والحريّة وجهان لحقيقة واحدة هي حقيقة وجود الإنسان ؟
هل أنّ الإنسان رهينة الوجود جبرا وأقدارا حاكمة قاهرة له أو هو كائنا حرّا بإستعداداته وذكائه وإرادته وإختياراته وسعيه وعزمه وكدحه أو هو بين منزلتين يخضع للقدر مجبورا وحرّا يغيّر من أقداره ويرسم مصيره؟؟؟
إن التساؤل عن حريّة الإنسان مسيّرا أو مخيّرا قضيّة أزليّة مرتبطة بحقيقة الإنسان ولغز القدر . " فيا حسرة الإنسان إن حان حينه وينمحي إسمه من الوجود ولم يتح لفكره حلّ لغز القضاء" . هل يتناقض الإيمان بالقضاء والقدر مع الأخذ بالأسباب ؟وما علاقة الإنسان بربّه وبمفهوم القضاء والقدر ؟ هل يمكن أن يتعارض فهم القضاء والقدر بالعدالة المطلقة لله عزّ وجلّ ؟ وما حقيقة ظلم النفس والبشر في تحديد مصيرهم أليست بعض القيود من صنعهم وإبتكاراتهم لتصبح حتمية مضروبة حولهم تعيقهم وتقمع حرياتهم ؟
1-مفهوم القضاء والقدر:
أ_ لغة:
_ القدر : " التقدير والتفكّر في تسويّة الأمور ومبلغ الشيء والحكم
_ القضاء : " الفصل والحكم "
. ب-إصطلاحا:
_ القدر :" هو معرفة الله تعالى لواقع الأمور التّي ستحصل مسبّقا ويعلم حدوثها بالدّقّة وبصفات مخصوصة وقد كتبها الله عزّ وجلّ كلّه في اللّوح المحفوظ.
_القضاء : " حكم الله تعالى في أمور المخلوقات وإيجاد هذا الحكم ". تعلّق القضاء بالعلم وتعلّقت الإرادة بالقدرة والفعل وقد قال العلماء " أنّ القضاء هو الحكم الكلّي الإجمالي في الأزل والقدر جزئيّات ذلك الحكم وتفاصيله.
" . 2_في علاقة البشر بالله وبالقضاء والقدر:
الله عزّ وجلّ خلق مخلوقاته وسوّاها وهداها سبيلها وقدّر أرزاقها وكتب آجالها وعملها وشقيّها وسعيدها في الأزل وقد أسبغ على عباده نعما ظاهرة وباطنة ومتّعها بحرّية التفكير والإختيار وإتخاذ القرار والتوجّه للفعل دون قيد وقهر فكيف تفهم إذن مشيئة الله ومشيئة البشر في مسألة القضاء والقدر ؟
أ_ مشيئة الله :
الله عزّ وجلّ غير منفصل ومستقلّ تماما عن مخلوقاته وغير متّصل بها إتّصالا مباشرا فلا قول بالإتّحاد والحلول ولا بالجفاء والجحود فالله سبحانه خلق عباده ولم يتركهم سدى دون إرشاد وتوجيه ودليل وهدي وهدى لذلك ارسل أنبيائه ورسله إلى البشر لتوجيه إهتمامهم وإصلاح نفوسهم وأعمالهم وتذكيرهم بميثاق فطرتهم على هدى الإرشاد والوحي الإلهي وما إنحراف سائر البشر إلاّ نتيجة تشويه وفساد فطرتهم وضمائرهم ونواياهم وقصدهم للفعل . يتدخّل ربّنا عزّ وجلّ بتدبيره وحكمته ومطلق قدرته فهو الفاعل لا بمعنى الحركات والألة ( كل يوم هو في شأن ) , يعزّ من يشاء ويضلّ من يشاء يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء و (هو الذّي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) وهو الذّي يبتلي عباده بشتّى الإبتلاءات من نقص في الأنفس والثمرات.
فالله غير متخلّي عن كونه ومخلوقاته في التّعامل بين الله والبشر قاعدة وأساس ونواميس وسنن.
القاعدة : ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ) أساس معنى الوجود البشري. الوسيلة : الإبتلاء بإختبار مخلوقاته وإمتحانها تمحيصا ومحقا فهل تتحقّق بحقيقة العبودية لله دون سواه ؟هل تستند إلى الحقائق الإلهيّة أو الأوهام النفسيّة والوساوس الشّيطانيّة ؟ هل تتعلّق بصفاته وأسمائه أو تتوكّل على حولها وقوّتها وتلتزم بأنيّتها ونفسها وحظوظها الدنيويّة وتلغي ميثاق فطرتها وتنسى ربّها وتشرك وتتعلّق بغيره وتكفر ؟؟ ( ونبلوكم بالخير والشرّ فتنة وإلينا ترجعون ) العقد : ميثاق الفطرة ,يغيب عن ذاكرة ووعي البشر بأنهم أجابوا ربّهم جميعا على بكرة أبيهم منذ كانوا أعيانا ثابتة في علم الله في الأزل بقولهم" بلى " يوم سألهم بارئهم " ألست بربّكم ؟ فأردف محذّرهم ومنبّههم "أن تقولوا إنّ كنّا عن هذا غافلين".
إنّ علم الحقيقة يحيل إلى الغيب والشّهادة معا وينبّه الإنسان إلى حقيقته وعين وجوده كينونة وصيرورة من النشأة إلى الحياة الدنيويّة والفناء والبعث والحساب ولكنّ الإنسان يرتبط بالمحسوس والملموس والآني مع أنّ حياة البشريّة برمّتها بالمنظور الإلهي وسياق الزّمن الأبدي المتّصل حين من الدّهر. فلا بدّ إذن من فهم معاني الربوبيّة بتمامها وكمالها لتبيّن معاني العبوديّة بكليّتها وشموليتها حتّى لا تزيغ الإنسانيّة عن مقصدها فيحصل الإلتباس والإرتكاس في فهم القضاء والقدر فيرتبط المفهوم بالظرف والحدث الزمني الظرفي فقط دون الإلمام بجوهر القضيّة اصلها نشأتها وصيرورتها من الأعيان الثابتة إلى الإيجاد والإمداد والموت والبعث والحساب مشيئة الله سائرة قاضيّة حاكمة في عباده ولكن ليست بطريقة عبثيّة ولا فوضويّة فلا قهر ولا جبر ولا إضرار وضرر ولا شرّ في تنزيل مقاديره بما يستوجب من حقيقة البشر لمن وعى وتسلّح بالصبر والإيمان والشكر لإنّ عاقبة الإبتلاء والمحنة منحة وفوزا للصابرين وللساخطين الجاحدين جزاء من جنس عملهم .
كل ذات بشريّة تحمل حقيقتها معها وتحمل خصائصها وصفاتها هواها مزاجها إنطباعها لذّتها شهوتها حرصها طمعها وجشعها وحقدها وأنانيتها ونرجسيتها وكذلك فكرها تصوّراتها ووعيها ولا يجعل الله لمشيئته سبيلا إليها إلاّ من حيث إعطائها لبسة الوجود الخارجيّة وإعانتها على الفعل بحسب طبيعة نيّاتها وضمائرها ( من يشأ يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) . وللإنسان سبيل وقدرة للفعل وتحقيق إرادته بكل ّ حريّة دون جبر وقهر.
إنّ الله يعلم بعلمه القديم ما سيختاره عباده من خير أو شر فيسّر لكل إنسان ما عزم عليه إقرار لحريتهم وتطبيقا لقانون الجزاء العادل فيهم ولكن قد يشعر الإنسان أنه ريشة في مهبّ الرّياح تعبث به الأقدار حيث تشاء عند فقدان السيطرة على نفسه والتحكّم في مصيره ويضيق به الفضاء عند ضعف إيمانه وإرادته .
ب _ مشيئة البشر :
يتخيّر الإنسان لنفسه أحسن الأشياء والصفات ويسعى لنيل أعلى المناصب والمراكز ساعيا متوثّبا لنيل حظوظه بإرادته وفي ذلك إثباتا لحرّيته وقصده وتوجّهه فلماذا ينكر القضاء والقدر فقط عند خيبته وفشله وعند إستحالة تجاوز الصعوبات والعراقيل وإكراهاته وتحقيق ما يريد وتهوى نفسه وينسى عند حصول مراده ومرامه وتحقيق نجاحاته ( كلاّ إن الإنسان ليطغى إن رآه إستغنى).
إنّها لنرجسيّة مقيتة وأنانيّة مفرطة مردّها التمسّك بالحول والقوّة والذكاء والإرادة ولعن القضاء والقدر عند حصول الضرر فقط مع أنّ الإنسان مسؤول عن أفعاله بمحض إرادته وبوجود حريّته الشخصيّة وما أفعاله الإراديّة إلاّ نتاج نيّته وفكره وقصده وتوجّهه وسعيه .
فلماذا ينكر حريّته ويدّعي الجبر والقهر على أفعاله كأنه مفعول به على الدوام دون إرادة حرّة ؟
هناك تقدير الله ومشيئته عزّ وجلّ وعلمه الأزلي وحكمته وقدرته وهناك أفعال البشر المتعدّدة المتنوّعة بلبوس الخير أو الشرّ بحصول الطاعة أو المعصيّة والنّفع أو الضرر فلا قهر ولا عبث إلاّ في عقول الواهمين.
القرآن يثبت نوعا من المشيئة الإنسانيّة يوجّه بها قدرته إلى ما يختاره .
(اعملوا ما شئتم إنّه بما تعملون بصير )
( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم )
( ذلك أنّ الله لم يكّ مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم )
(من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)
يتحكّم الإنسان في سيره ومساره بمشيئته وإرادته وله القدرة على الإصلاح والتغيير والإختيار بين البدائل فمن أين يأتي الإكراه على العمل والجبر والنيّة أسّ العمل والقلب محلّها والقلب حرم آمن منبت الصلاح والفساد مستودع الأسرار ؟
ج _ " وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله " :
هل تحمل هاته الآية دلالة الجبر على فعل الإنسان ؟
لا يتحرّك متحرّك في خير أو شرّ في سرّ أو جهر في برّ أو بحر إلاّ بإرادته ولا تضاهي قدرته ولا تتناهى حكمته فلا تخرج مشيئة البشر عن مشيئة الله عزّ وجل ّ لإن ّ نيّة الإنسان وقصده وما إستحكم في قلبه ورضي به ضميره وما عزم على فعله هو من يحدّد سلوكه وتوجهّه للفعل فالله ييسّر للساعي سعيه طالما قرّر الفعل وتجانس نيّة وضميرا وقصدا واستيقنتها نفسه فلا داعي لقهره وجبره على أن لا يفعل طالما هو مصمّم واختار ولذلك هو المسؤول جزائيّا عن فعله ولا شأن لربّه عن منعه فحادثة خلق آدم تذكّر بعصيان إبليس اللّعين وآدم عليه السّلام ربّهما والله قادر على منعهما من العصيان ولكنهما تحرّكا بمحض إرادتهما فكلّ نال جزائه من جنس عمله ( وليس الله بظلاّما للعبيد) .
إنّ مشيئة البشر هي شعاع من مشيئة الله والإنسان يتصرف بنيّته وضميره وقصده والتّعارض والتضارب والتمزّق في نفوس المتنطعين مطموسي البصيرة الجاحدين الذّين غابت عليهم أو تلبّست عليهم حكمة الله وقدرته في تسيير كونه وتدبير أمور مخلوقاته ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطا) .
الإنسان يزرع الزّرع والله ينبت النّبات ومن زرع حياته شرّا فلا يتّهم القضاء عند قطف الثّمار.
والعاقل لا يستنكر على الربّ عزّ وجلّ علمه ومطلق قدرته وإحاطته الكاملة التّي تدهش عقول البشر النسبيّة وتتجاوز نباهتهم وذكائهم وفطنتهم فشتانا بين علم الله المطلق وعلم الإنسان النّسبي المقيّد بزمان ومكان وبمحيطاته الحسيّة وعلائقه وعوائقه وعلاقاته البشريّة وبين علم الباطن علم الحقيقة وعلم الظاهر مرتع الفرضيات والإحتمالات فكلام البشر حجّة عليهم لا حجّة لهم ( ولله الحجّة البالغة) .
ألا يمكن أن نقرّ بأن الإنسان مجبورا في قالب الإختيار بما له من مشيئة وإرادة ذاتيّة يدير بها حياته وهو تحت مشيئة الله وحكم أقداره بما تقتضيه خصائص الربوبيّة وصفات العبوديّة؟
د_ الإنسان مجبور في قالب الإختيار :
هل يمكن أن يحاجج الإنسان علم الله وإحاطته به حتّى يجزم بأنّ كل شيء قضاء وقدر وليس له إرادة وإختيار بل هو مساق مسلوب مجذوب إلى قدره وأمره وحاله ومآله قضاء كتبه الله عليه وهو من كل ذلك بريء مفعول به ؟
-الإنسان مجبور :> من القضاء من لا كسب فيه للإنسان لأنّ لا إرادة له فيه ولا يؤاخذ عليه فهناك أمور تجري بها المقادير ولا نملك دفعها وهي لا تدخل في دائرة التكاليف الشرعيّة ولا يحاسب عليها
(هو الذّي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء ) فالإنسان مجبور ولا دخل له في تحديد جنسه وكونه ذكرا أو أنثى ,وإختيار عائلته ولا يمكن أن يكون أب لإبيه أو لجدّه أو إبن لإبنه أو حفيده فتحديد الأبوّة والبنوّة قد تمّ فلا إرادة وإختيار له وكذلك زمانه حقبة حياته الدنيوية الفانيّة والمحدّدة زمانيّا من ساعة ميلاده إلى لحظة وفاته , فهو مجبور على ذلك ولا جرم عليه .
حكمة الأقدار ومشيئة وتدابير إلهيّة خارجة عن دائرة إرادته ووعيه وإدراكه فهو مسيّر فيما لا يعلم مخيّر فيما يعلم كما أخبر بذلك الغزالي .
- الإنسان في قالب الإختيار : إنّ حياة الإنسان وأداء وظائفه وإنجازاته وتحصيل قوته ومعاشه مرتبطة بالأسباب والمسبّبات والعلائق والعوائق وعليه أن يبذل كل جهده في تحصيل الأسباب وإستيعاب ظروفه والتحكّم في كل ذلك لتجاوز الصعوبات ونجاته بفرض شخصيته ونيل سعادته فلا يعجز ويتواكل ويفرّط في حقوقه فإذا إستنفذ طاقته فما يتّم بعد ذلك فهو قدر الله فلا يحزن وتحبط عزائمه لعدم نيل ما يريده
الجاهل لا بدّ أن يتعلّم والمريض لا بدّ أن يعالج والمنحرف أو الشّاذ لا بدّ أن يقوّم سلوكه...... فالأسباب في حد ذاتها من قدر الله وبعض النّاس يهملون الأسباب ثمّ يتّهمون القضاء والقدر وسطوة الأقدار في تحديد حالهم المعكوس وأحوالهم المزريّة.
الإيمان بالقضاء والقدر لا يتناقض مع الأخذ بالأسباب فلا تتّم مصالح العباد وتحصيل قوتهم ومعاشهم إلا ّ بدفع الأقدار بعضها ببعض كما تدفع السيئة وهي من قضائه وقدره بالحسنة وهي من قضائه وقدره .
إن مجال الحريّة والإختيار متاح للإنسان ولا جبر على نيّته وضميره وقلبه وعقله فلعقله قدرة تصرّف وتكيّف مع البيئة والإختيار بين البدائل وتغيير حال بحال فلم يكتب الله على عباده إلاّ ما سجّلوه في صفحات كتاب وجودهم بنيّاتهم وضمائرهم وإختياراتهم وتوجّهاتهم وفعلهم بمحض إرادتهم وقناعاتهم .
- الإنسان مجبور في قالب الإختيار : في دائرة ومجال الإختيار يقرّر الإنسان غير مرغما على التوجّه والفعل وإنّما يختار ويفعل بإرادته الخالصة فقد منح إرادة حرّة هي أساس التّكليف والإبتلاء والله سخّر الكون في خدمته ومنحه العقل كقوّة إدراكيّة تميّزه عن الجماد والكائنات الحيّة الأخرى يتعرّف به إلى الله ويميّزه به وله فعل إختياري كسبي في حدود ما منحه الله من إمكانات وإستعدادت وقوابل ( لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها) .
إنّ الإنسان مجبور في مسائل ومعطيات خارجه عن إرادته إدراكه ووعيه قيود لا مهرب منها منها الوراثي يولد بها كما تولد في جسمه ومنها ما يأتي من البيئة الطبيعيّة كالحرّ والبرد والأمراض والجراثيم والبراكين والزلازل وتعاقب الليل والنهار.....وبعض القيود من صنع البشر وإبتكاراته كالقوانين والأخلاق والنظام السياسي والمخيال الشعبي والعادات فجميعها قيود.
فالحريّة المطلقة مستحيلة والحريّة بدون قيود ووجود مقاومة لا معنى لها .فالحتميّة المضروبة حول البشر هي التي تجعل لحريتهم معنى لتعبّر الحريّة عن نفسها بتجاوز العقبات ..
ألا يمكن إعتبار القدر مجرد وسيلة تكشف بها الحريّة عن ذاتها وتؤكّد وجودها ؟
3_هل نحن أقلام والإقتدار أصابع ؟
لتبيّن حقيقة القضاء والقدر في حياة البشر وفكّ شفرتها ولغزها لا بدّ من تتبّع صيرورة الإنسان من ولادته إلى فنائه وبعثه بعد موته حتّى تتّضح الصورة كاملة لمشيئة الله ومشيئة البشر وجبر الأقدار وحريّة القرار .من خلال النظر في مكوّنات الأكوان الخلقيّة إلى التمعّن في أسرار الأكوان المعنويّة .
فهل يمكن أن نكون بعزمنا وإرادتنا ومشيئتنا وسعينا أقلاما تدوّن على صفحات كتاب وجودها مصيرها وتنحت ملامح مآلها وتعبّر وتكشف عن حقيقتها بخصائص وصفها وطبيعتها وطبعها وتتدّخل مشيئة الله عزّ وجلّ كأصابع تدير وتتصرّف في حكم أحوال البشر بإعطائها لبسة الوجود الخارجيّة وإعانتها على الفعل بحسب خصوص نيّاتها وضمائرها ومقاصدها وطبيعتها ؟
فالله لا يقهر أحدا على طبيعته و(كل يعمل على شاكلته) .
-الولادة :حدث البداية وهو تتّمّة لعمليات سابقة كإخصاب البويضة وإنغراس المضغة وإستكمال مرحلة الحمل بنجاح وكلّها بمشيئة الله الخالق القادر وهو الميسّر والموفّق ومن يحدّد جنس المولود والقادر على أن يجعل من يشاء عقيما أجدبا أو خصيبا مخصابا ,فالإنسان من الله إيجادا وإمدادا قضاء وقدرا إلاهيا تبرز فيه الإرادة البشريّة ظاهريا كفاعلة والله الفاعل في الحقيقة ولا تعارض وتناقض بين قدرة الله وحكمته وسننه الساريّة في الوجود وإرادة البشر الفاعلة التابعة لإحكام المولى القادر الحكيم .
-حياة الإنسان : المحطة الثانية لوجود البشر والهامة في تحديد مصيره وإبراز خصوصيته وطبيعته فهو يسعى كادحا مهرولا لتحقيق مصالحه معتمدا على حوله وقوته وذكائه وعزيمته ويختار وهو حرّ في تحديد إختياراته وتوجهاته ولا رقيب عليه يسلك السّبل ويتعلّق بالأسباب وينجز أهدافه وقد يخيب في تحقيق بعض آماله وطموحاته ويكبو به جواده وهو مع ذلك ينمو ويمرّ من طور إلى طور وما فقده وتجاوزه من مراحل عمرية لا يعود فإذا مضى يومه مضى بعضه وعمره أيام تنقضي جملتها بإنقضاء آحادها وذلك قضاء الله وأقداره وحكمه في البشر وما له من مهرب فهو مجبور باطنيّا محدّد مساره الوجودي ضمن سياق متّصل ( فهو الذي يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا اشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى ارذل العمر ....) والإنسان يعيش في إنبساط وسلاسة وجودا ووعيا ومشاركة وعلائق وإدراكا إجتماعية دونها الإغتراب والإستلاب لمن تاه عن مقصده وحقيقة ذاته .
يهرول ساعيّا لا ينفصل عن وجوده الحسيّ ولا ينفكّ عن التوثّب لتحقيق أحلامه وآماله وغاياته والله من وراء ذلك فاعل في الحقيقة غير مستقلّ عن مخلوقاته وكونه فهو سبحانه يتدخّل في صيرورة الحياة البشريّة يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء ينصر من يشاء ويخذل من يشاء ....ويقلّب الليل والنهار وينزّل الأمطار ويرسل الرياح اللواقح ويرينا الرعد والبرق خوفا وطمعا ......
أفعال إلاهيّة من وراء الصورة والحركة والسعي البشري ,إنّها أسرار وأقدار ربّانيّة تجتاح المجال البشري لا تنفكّ عنهم مرتبطة ملتصقة بوجودهم فصفتهم الإفتقار والعجز والضعف والله الغنيّ القوي الجبّار.
الله خلق مخلوقاته ولم يتركهم سدى دون رعاية وعناية وإمداد وهداية (كل يوم هو في شأن).
-الموت : المحطة النهائيّة للوجود الحسّي الحركي لعامة البشر ومن طويت صفحته فقد كشف غيبه وإتضح ما خفي من أمره .الموت حقّ قد كتبه الله على كل البشر ( خلق الموت والحياة ليبلوكم) .
فالإنسان من الله وإلى الله سائرا بعد الموت في حياته البرزخيّة وعند البعث في المحكمة الإلهيّة للمسائلة والحساب والجزاء .
في حدث الولادة وطور الحياة يبرز الفعل الإنساني ظاهريّا بوجود الإرادة والمشيئة البشريّة التي تنفعل وتفعل وتساهم وتتدخّل فالإنسان قوّة فاعلة ولا يمكن إعتباره كائنا سلبيّا مفعولا به تتقاذفه الأقدار وترميه إلى مصير مجهول لا عزم له ولا قرار ,فهل لحصول الموت عمل مقضي وفعل إنساني مشارك إلى جانب القدرة والحكمة الإلهيّة ؟
قد لا ينتبه الإنسان انه يسير إلى مصيره المحتوم بخطى حثيثة بما كتبه ودوّنه بنفسه في تاريخ حياته بقالبه الحسيّ والمعنوي ففعله من تدبير نفسه ناهيك بقالبه الحسيّ الذي ينمو ويتراجع ويتقهقر ويتاثّر بظروفه البيئيّة وعوامله الوراثيّة الذي ورثها من أصوله ويورّثها لذريته ويمثّل الموت تبعا لذلك عامل حد لوجوده الحسيّ فلا يمكن أن يستمر وجوده المادّي بقالبه الحسيّ إلى ما لا نهاية لإستحالة ديمومته في دنيا ظروفها ماديّة وشروطها حسيّة.
أليس الموت في جوهره هو عجز الجسد عن التكيّف مع مستجدّات الحياة المتنوّعة المتعاقبة وعجزه عن دفع تكاليف البقاء ؟
فلننظر إلى أسباب الموت المتسبّبة في تغييب الأفراد والجماعات من أمراض وأوبئة وقدرة الإنسان والأمم المتحضّرة على التحكّم في نسبة الوفيات وتحسّن الأمل في البقاء إلى عمر متقدّم مقارنة بالحقب السّابقة .
في تركيبة الإنسان وبنيته بعد حسيّ ماديّ فاني لا محالة ولا بقاء له فالموت يكنسه والفناء مصيره والبدن مثواه التراب والتحوّل والتحلّل ليخصّب التّربة ويثريها وتتّم بذلك عملية الرسكلة العضويّة المعدنية في أديم الأرض و له كذلك بعد معنوي متمثّل في روحه الوديعة المستودعة في قفص البدن إلى جانب هويّة ذاتيّة معنويّة خالصة من لدن الله الوهّاب سرّ إلاهي يميّز الناس بعضها عن بعض تستهلك وتتمتع بوجودها الحسيّ المعنوي فهي عين ذات البشر وحقيقتها الملازمة لها في كل أطوار وجودها الساكنة في البرزخ بعد فناء البدن المستجيبة المذعنة لصوت الحقّ والنّداء والمحاسبة يوم القيامة .
القالب الحسيّ يبلى ويضمر ويتقهقر مع الزّمن وتنتهي صلوحيته ويستنفد ويستهلك شحنة وجوده فلم يكتب الله السرمديّة والبقاء للبشر في حياتهم الدنيويّة ولذلك فالموت محطة نهائيّة لمسارهم وصيرورتهم ووجودهم الحسيّ في عالم الظاهر والشهادة والحسّ فهو حدّ لتطورهم وتقهقرهم فالإنسان يسارع ببعديه الوراثي والبيئي ليلاقي حتفه وينهي صلاحيّة قالبه الحسيّ الماديّ بإختلال وظائفه ومنهم من يتكيّف متجاوزا شتّى الصعوبات والعقبات السالبة لروحه المنهية شحنة وجوده فيعيش إلى حين .
إنّ مصير الإنسان في بسط الحياة مرتبط بالقابليّة الوراثيّة والإستعداد البيئي وما قبضة الموت التي تترصده إلاّ نتاج لبعديه الوراثي والبيئي .فالموت يمكن أن يفهم ضمن بعديه التّي قد تؤخّر أو تقرّب من موعد الموت فلا نتّهم الله في قضائه وقدره ونقسو على اقدارنا ونبكي مآلنا ومنتهانا فهي من صميم أصولنا ومسارنا وإختياراتنا وتوجهاتنا ولا نتّهم علم الله فينا فهو مطلق غير مقيّد بظروف وأزمنة وأمكنة فعلمه سبحانه وتعالى حوى ما كان وما سيكون واذا كان ما قد كان كما كان فقد تمّ علمه في الأزل فالبحر ينفد وعلم الله وكلماته لا تنفد فحكمته وقدرته مضمّنة في جواهرنا ومعانينا وأعياننا الثابتة منذ كانت في الأزل في العدم غير المعدوم .
4-عدالة الله في علاقة مع القضاء والقدر :
في مسألة القضاء والقدر هناك عديد التساؤلات يطرحها أصحابها تمسّ من عدالة الرحمان وتشكّك في صفة العدل المطلقة لخالق الكون وتظهر الإنسان أنه مجبور على افعاله موجّها إلى مصيره ومآله مفعولا به كسؤال إبليس اللعين وفتنته لضعاف الإيمان والنفوس بقوله "ما رايك فيمن خلقني فيما أختار وأستعملني فيما اختار ثمّ إن شاء أدخلني الجنّة وإن شاء أدخلني النار أعدل في ذلك أم جار" ؟ لذلك على الناقد البصير والباحث الحصيف عن الحقيقة أن يتوخّى الموضوعيّة والصرامة والدقّة في التناول والمعالجة ليمحّص ويحصحص الحقّ من الباطل من خلال قراءة للوقائع والتاريخ النفسي والبشري .
فهل نكيل مصيرنا ومآلنا إلى أقدار الرحمان ونطعن في عدالته سبحانه وتعالى ؟ هناك جوانب ومظاهر للحقيقة يمكن أن توضّح ذلك وترفع اللّبس وتحلّ الإشكال.
أ_ حدث خلق آدم والإبتلاء :
تجلّى الربّ العظيم بإدماجه متغيّر في وجود الكائنات العاقلة آنذاك الملائكة وإبليس ألا وهو آدم عليه السلام وإسناده مهمّة الخلافة وأمرهم بالسجود له تشريفا وتكريما ,أمر إلاهي يستوجب الإستقبال الجيّد والإستجابة له ولكن كل من الملائكة الكرام وإبليس تعاملا مع هذا الأمر الفوقي الربّاني بنفسيّة وعقليّة وتمثّلات محدودة بضيق افق فهمهم وإدراكهم ومجالهم النّفسي والذّهني. أمّا الملائكة فتمثّلاتهم إزاء الإرادة والمشيئة الإلهيّة ذات بعد علمي معرفي فلقد ناقشت الأمر متعجّبة من إسناد وظيفة الخلافة لهذا المخلوق الجديد لإعتقادهم بعدم أهليته وأنّهم احقّ بها وعبّروا بكل اريحيّة عما يخالجهم دون إحتقار لآدم ودون تكبّر فاحتاجوا لدرس تربوي من لدن حكيم خبير فتمت المعالجة ببيداغوجيا المعرفة لكي تحصل المعرفة والعلم بأمر الله وتبيان ما عجزوا عن فهمه وإدراكه فسجدوا طائعين مسلّمين لله ومعترفين لله بالعلم المطلق وإنّه هو العليم الحكيم أمّا إبليس فقد تعامل مع الحدث والأمر الإلهي بمنظور نفسي صرف بحت لتوهّمه بعلويته فإنّه طاووس الملائكة محتقرا آدم وجودا بنية ووظيفة وتعزّز بخلقة النار وكان الإبتلاء بالسجود كشفا صريحا لدسيسته النفسيّة وعدم صدق عبوديته وظهرت حقيقته إلى العلن حيث أنه مغرور معجب بذاته ولكنّ الله العليم الخبير بسرائر عباده وما يكتمون وما يضمرون لم يعاجله بالعقوبة ولكن عالجه ببيداغوجيا الخطأ وأرسل إليه عبارات تحمل إشارات ربّانيّة لعلّه يغيّر موقفه ويتراجع ويصلح خطأه "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين " ولكنه لم يلتقط الإشارات المضمّنة في العبارات لا ذوقيّا ولا ذهنيّا ولا نفسيّا فلم تلامس أي ملكة من ملكاته التي ترتبط بعبوديته لربّه بل بالعكس تمادى في الجدل واصرّ معاندا متكبّرا متجاوزا مجدّفا ضد تجلي ربه ومشيئته سبحانه وتعالى فلو خلق الله آدم وهو القادر على ذلك من لؤلؤ أو ياقوت أو ذهب خالص أكان ليسجد له ؟
لا أعتقد ذلك بتاتا لأنه لا يرى إلا نفسه وهو المعجب بذاته فلو لم تكن لديه هذه الحجّة خلقة الصلصال والنّار لأبتكر حجّة أخرى لعدم السّجود لآدم والعصيان فعقل إبليس اللعين غير عاجز على إبتكار الحجّة حين يحتاج إليها . فاستحقّ اللعنة لسوء أدبه في حضرة مولاه وإن كانت المعصية ظرفية فالعقوبة أبديّة ولكي نستسيغ موضوعيّا هل عدل الله معه أم جار نتابع ما جرى بعد ذلك لنحكم من خارج الحدث الذي طبع كتاب الزمان والمخلوقات العاقلة بما جرى ويجري من بعد ذلك. * لقد تمادى إبليس اللعين في غيّه وفسقه بعد أن نسب معصيته إلى الله وبرّأ نفسه منها "قال ربّ بما أغويتني لأزيّنن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " وتوعّد هذا الوافد الجديد بغوايته وطلب النّظرة من ربّه لتحقيق ذلك فلقد قام بعمليّة هروب إلى الأمام برعونته سائقه هواه ونفسه المتكبّرة الظالمة لنفسها .
فهل كتب الله عزّوجلّ عليه الشقاوة أم إنقاد إليها بمحض إرادته ورسّخ خطأه بثبوت خطيئته * لم يكتفي الله الحقّ العدل بإمتحان الملائكة وإلجنّ إبليس بل إمتحن آدم أيضا مثله مثلهم وتلك دلالة واضحة لعدالة الربّ سبحانه مع كل مخلوقاته دون إستثناء فلقد امره بالأكل من الشجرة وحذّره من عداوة عدوّه إبليس ليكون مدركا وواعيّا .
إنّ تمثّلات آدم كانت ماديّة حسيّة لإنبهاره بالوجود الحسّي فلقد عالجه ربّه ببيدغوجيا المشروع التعلّم من خلال التجربة الحسيّة ولكنه خاب بإيعاز من عدوّه إبليس اللعين فلقد أغواه بكلام ظاهره النّصح وباطنه الغواية والفتنة والسقوط ولذلك سقط آدم في امتحانه ولكنه ندم وتاب وتوجّه إلى ربّه بكلمات التّوبة والإنابة والإعتذار فقبل الله توبته ولكن لا ترجع الأمور إلى ما كانت عليه فلقد تمكّن منه عدوّه ونال حظّه منه . فما سرّ أن يتوب الله على آدم وزوجته ويبقى إبليس في اللعنة والطرد من رحمة الله أرحم الرّاحمين ؟آدم وحواء عندما أكلا من الشّجرة المحرّمة نسبا المعصيّة إلى نفسيهما واعتذرا من الله ولكن اللعين إبليس برّأ نفسه منها ونسب الإغواء إلى الله عزّ وجل.
إن حادثة خلق آدم أول إبتلاء وإمتحان ومحك حقيقي لإبراز الصادق من الكاذب والصالح من الطالح والمتعلّق بأسماء الله وصفاته والمتعلّق بنفسه وهواه تبرز عدالة الله المطلقة فلا ظلم لأحد من خلقه ولم يكتب عليهم إلاّ ما أضمروه ورضيت به سرائرهم وضمائرهم وسعوا للفعل بإرادتهم . لم يخالف الله عزّ وجلّ طبائعهم ونفوسهم وامتحنهم كلّ حسب تمثّلاته للوجود وطبيعة نفوسهم في حضرته القدسيّة فخاب من خاب ببعده عنه في حضرة ظلمانيّة حيث الحجب وفاز من فاز بجواره في حضرة الأنوار. ولكن من غواة البشر من لا يعجبهم العجب المتحذلقين الجاحدين للنّعم من لا تقنعه القناعة ولا يتقبلون الحقيقة لضيق صدورهم وإنطماس بصيرتهم فيسألون لماذا يفعل الله كل هذا حتى نبتلى فنخيب ونعصي أو نطيع ونسلم له ؟ ليس لهم إلا إجابة ممن خلقهم وسوّاهم وأوجدهم من عدم واصبغ عليهم نعمه وما ظلمهم في شيء ( لا يسال عمّا يفعل وهم يسألون). نتابع تصرّف الرّحمان رب الوجود عبر الأزمنة والأحقاب التاريخيّة مع الأمم والأقوام لكي نتبيّن عدالة الله عزّ وجلّ.
ب_ تاريخ الأمم والبشر :
أقوام عديدة حادت عن ميثاق فطرتهم وزاغوا وإبتعدوا عن الفطرة السويّة وظلموا بني جنسهم واستعبدوهم ونكّلوا بهم تعذيبا وقهرا وقد وصل بهم غيّهم وفسقهم وفسادهم وطغيانهم إلى محاربة وقتل انبياء الله ورسله والحكماء والعلماء والمصلحين والشرفاء من عباد الله , أناس من خيرة البشر قبروهم وأقصوهم من الحياة بروعنتهم وتكبّرهم وتجبّرهم فهل ظلمهم الله سبحانه وتعالى ام كانوا هم الظالمين؟ لقد حذّرهم الله وصبر على غيّهم فهو الصبور العالم بحالهم وسرائرهم ولكن (لكل أجل كتاب ) فلقد كان جزائهم وخاتمتهم من جنس عملهم واستحقوا مصيرهم ومآلهم .
النمرود الحاكم الطاغيّة أخذه الغرور والعزّة بالإثم حتى قال " أنا أحيي وأميت " وفرعون أطغاه ملكه فأعماه فقال " يا هامان إبن لي صرحا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى" .
فالمتأمّل لقصة سيّدنا موسى عليه السلام وفرعون يتبيّن المعالجة الحكيمة من الله اللطيف الحليم الخبير لفرعون وبطانته وأهله فلقد أمهلهم وصبر أمد كبير على آذاهم وحذّرهم وأرسل لهم إنذارات وإشارات وإبتلاءات قويّة لعلّهم ينتبهوا ويتراجعوا ولكن عمى البصيرة والتكبّر والتجبّر حال دون ذلك فلقد تمادى فرعون وهامان وجمعهم في غيّهم وفسادهم وقال فرعون "أنا ربّكم الأعلى " و"ما أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلاّ سبيل الرشاد"وأخيرا التحق مع جنوده لقتل من بعثه الله له لهدايته مع ثلة من المؤمنين به حتى ينهي دعوته ولكن الله إنتقم منه وأغرقه في اليمّ عقابا له وجنوده الظالمين فهل ظلمه ربّه أم ساق نفسه وأهله وأوردهم بئس الرّفد المرفود ؟ ( وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) .
عبر الأحداث التاريخيّة والزّمن البشري تبرز عدالة الله عزّ وجلّ للعيان وللناقد البصير فحتّى الدّارس للقرآن من خارج العقل الإسلامي الباحث عن الحقيقة المتجرّد يهتدي إلى العدالة الإلهيّة المطلقة والذّي لا يشكّك فيها عاقل ذو بصيرة فلا وجود لظلم الله لمخلوقاته وهو القويّ العزيز القادر وهم الضعفاء الأذلاّء المفتقرين بوجودهم لوجوده .
ج_ النّفس البشريّة وتجربتها الذاتيّة :
كل إنسان يمكن أن يسأل نفسه ويبحث بعمق وتروّي في تجربته الحياتيّة هل ظلمه ربّه عزّ وجلّ أم ظلم نفسه وظلمه البشر؟ هل خيبته من نفسه وسلوكه وإخلالاته وتقصيره ونقائصه وعقده أم هي خارجة عن وعيه ومسؤوليته وفكره وسلوكه ؟ هل هو شيء مكتوب عليه مقرّر وهو كالدميّة المتحرّكة تتقاذفها الأقدار وتتلاعب بها ثم يساق إلى مصير لم يختاره مجبورا مقهورا دون تفكير وحريّة وقصد وتوجّه للفعل. إنّ الإنسان الحقّاني يعترف أنّ الله طيلة حياته لم يظلمه لم يعاجله بالعقوبة بل بالعكس لطيف حليم به متّعه بشتّى النّعم الظاهرة والباطنة وسوّاه بشرا سويّا لم يحتقره بل كرّمه فهو يمهله ولا يهمله رؤوف حليم به وهو أعلم بضعفه وعجزه وإفتقاره وحاله . (قتل الإنسان ما أكفره) .
5-حقيقة ظلم النّفس والبشر :
إنّ الظروف والشروط العائليّة والإجتماعيّة والبيئيّة والثقافيّة والفكريّة والتربويّة والإقتصاديّة والسياسيّة قد تحدّد وتوجّه مصير البشر وتبرمج عقلهم الباطن وتحيلهم للخضوع والرضا والخمول والسّكون لتفقدهم حرّيتهم وإرادتهم لتغيير ما يجب تغييره كما أنّ عتاة وغواة البشر المترفون يسلبون كرامة البشر وشهامة الشّرفاء منهم ويدوسون على كرامتهم يحدّدون لهم سقفهم الإجتماعي وسلم رقيّهم ومجال حركتهم وحدود حرّيتهم .
إنّه الجبر الوراثي والتّاريخي والنظام الإجتماعي والطبقي سجون تضغط بجدرانها على الإنسان تقيّد إرادته وتسلب حرّيته وتمسخ وتزيّف وجوده . إنّها تربيّة نفسيّة وحركيّة على مقاسهم لسلب حقوق المستضعفين وطمس مواهبهم ونهب خيراتهم حتى يستمتع دهاة البشر وسلاطينه وملوكه وحكّامه بوجودهم ويحلوا لهم زمانهم ويعيش السواد الأعظم في الخصاصة والبؤس والحرمان دون طموح وتطلّع لغد أفضل ولرتبة أنسب وعيش أرغد فالأيّام واحدة ولا إختلاف في نوع البشر إختلفت أساليب الخداع والخداع واحد والإنسان لم يتغيّر والحياة لمن غلب .
ليس للقضاء والقدر جبرا وقهرا على مصائرهم بل بالعكس إنّه ظلم البشر الذي يستوجب المعالجة والتغيير وقلب المعادلة لظلمه وقهره وتقييد حرية البشر وسلب إرادتهم ولقد كانت دائما دعوة الأنبياء والرسل نصرة للمستضعفين وتغييرا لواقع الإستعباد ونقضه وهدمه وهداية للإنسان وتحريره فكانت تتصادم مع المترفين الظالمين وكل القوى المتسلّطة السّارقة للإنسان المزّيفة وعيه الناهبة لكل الخيرات الطامسة لكل معاني وحقائق الوجود الجميلة والفطرة السليمة.
إنّ من وسائل ظلم البشر التّضليل والتّدمير والتّعليم الموجّه المبرمج ضمن أهداف ومصالح ومناهج خفيّة لكي تحافظ السلطة الحاكمة على مصالحها وحظوظها وكذلك المغالطات والتشويه والقصف الإعلامي المستمّر. فالداء في الحاكم الظالم المستبدّ فهو يخدع الجماهير والمفكّرالماكر والسياسي والمثقّف الإنتهازيين كلّهم يزيّفون وعي الجماهير يغيبون معانيهم الحقيقيّة معدمين وجودهم المعنوي ويزيد الطينة بلة وعاظ السلاطين الآكلين من مأدبة أسيادهم وأولي نعمتهم المستفدين من الواقع يسرقون عقول النّاس في غفلة منهم بإتّخاذ الدّين وسيلة لإستحمار النّاس أفرادا وجماعات بتخديرهم وتبرير الواقع إنها قدرات ماكرة منسجمة متصالحة خدمة لمصالحها للحكم والهمينة على بسطاء غافلون . ويتحمل الشعب بأفراده السّلبيين الخانعين الخاضعين الراضين بالهوان الذي نسمع من كلامهم " أقام العباد حيث أراد " و"المكتوب على الجبين لا بدّ أن تراه العين " و"قسمة ونصيب وحظوظ " أبّدوا الواقع فلقد ضيّعوا حقوقهم و حظوظهم وتكاسلوا بإسم القضاء و القدر ناموا واسبتوا في بيئة الجهل والوهم والغفلة بينما غيرهم إستيقظ في الظلام وجدّ السّير فوصل. إنّ الطبقة المحظوظة ماديّا المتعلّمة الذي خبرت فقه الواقع والمنازلات تنازع وتحارب من أجل المناصب والإمتيازات ودوام ثرائها ورخائها وتحرم ما دونها من الطبقة الأخرى المسحوقة من الإرتقاء والتمتّع بالخيرات ونيل حظوظها وحرمانها من إمكانيّة القيادة والسّيادة .
أمّا الطبقة غير المحظومة ماديّا فيصارع أفرادها فرادى من اجل البقاء وتحصيل القوت يخيّم عليهم الفقر والجهل والمرض والعجز يرافقهم بؤسهم ووهمهم وسوء فهمهم يمثّلون الصورة الحقيقيّة لتخلّف الوطن دون تجميل وزيف معاني فهم ملح البلاد وطينته وتربته لا يتركون الوطن عند إشتداد المحن والكوارث والهزّات الإجتماعية العنيفة وغيرهم من الميسورين والمحظوظين يغادر ويفارق لامبالي فهمّهم بطونهم وحياتهم الدنيويّة المترفة .
ظلم البشر حقيقة ولا بدّ من رفع الإلتباس والغشاوة على بصائر العباد فلقد أصبح الواقع العائلي والبيئي والإجتماعي والتربوي والسياسي والإقتصادي قدرا لعامة البشر فاستكانت واستسلمت وعلّقت عجزها وتقصيرها وفشلها وبؤسها على شمّاعة القضاء والقدر في حين تقدّم العالم الغربي بالإعتماد على إمكانياته ذكائه مواهبه وحريته وإرادته ولم يجعل لمفهوم القضاء والقدر السّلبي سلطانا وقيدا يعيقه فلقد إستهلك شحنة وجوده وبطاريّة حريّته وإرادته في إدارة وتنظيم شؤونه والتغلّب على الصعوبات ورفع التحدّيات وتجاوز شتّى العقبات فحتّى الموت صارعه محاولا أن ينتصر عليه بمغالبة ومعالجة أسبابه ومسبّباته ووفّق في إطالة أمل الحياة بتخفيض وتقليل معدّل الوفيات لتنعم البشريّة بوجودها فترة أطول فلقد عالجوا القدر بالقدر ونجحوا لعلمهم أنّ للموت أسباب وراثيّة وبيئية ملتصقة مرتبطة بوجود البشر موضوعيّا وماديّا.
إنّ المعركة تدور في داخل النفس المغيّبة الخانعة المزيّف وعيها وفي شارع الدّنيا والمجتمع الغاصّ بالفاسدين والأدناس والأرجاس سالبي الحقوق والحظوظ والمواهب مدنّسي الطبيعة والفطرة البشريّة أعداء الحقّ والعدل والجمال . لا بدّ من تصحيح مسار الإنسان والزمان بمواجهة فكر الجمود والسلبيّة والإستحمار الثقافي والإذلال البشري ونصرة الحقّ ودحض الباطل وكشف الشبهات ورفع اللبس والغشاوة عن الأبصار والأنضار والبصائر فالفئة الحاكمة المتخمة المسيطرة تستغل وتستثمر الظروف لصالحها وتغيب وعي الطبقة الأخرى المحكومة المحرومة.
الإنسان عامّة يخضع لاشعوريا ولاأدريّا لتأثير ظروفه وبيئته ومجتمعه وإطاره الفكري وضغط الطبقة المسيطرة ومنهجها الخفيّ لديمومة تفوقها وقيادتها ولكن الإنسان الواعي الحرّ الثوري يتجاوز العوامل القهريّة والشروط الجبريّة لزمانه ليتغيّر من صورة المعلول إلى صورة العلّة بقدر نضجه ووعيه الذاتي ليصارع ويساهم في ثورة الجماهير وقلب المعادلة بالفكر الثوري والوعي المطابق بالعلم وفقه الموازنات.
لا بدّ من إنتاج ثورة جوهريّة عميقة في الأرواح السّاكنة وفي الأشباح السائرة والعقول المعطّلة والقلوب المغلّفة بالأدران والكثائف لتتغير معها كل القوالب والأنماط الذهنيّة والتمثلات المغلوطة والأبعاد العاطفيّة والوجدانية المزيّفة والإهتمامات والتوجّهات الخاطئة فكم من برامج سارقة للوقت وكم من جدالات عقيمة مستهلكة للطاقة وأفكار ونظريات مخادعة سالبة للإرادة والحرية الفرديّة والنباهة الإجتماعيّة . إنّ الوقوع في الوهم والزّيف والجهل يزيد أمد التعاسة ويعمّق البؤس ولا سبيل إلاّ بتسييس العامة إذ أن ّخروجهم من منطقة الإنشغال والإهتمام بمصالحهم ومصائرهم إلى منطقة الإنصراف والتخلّي تحيلهم إلى التخدير والتعويم والسلبيّة والسكون والخضوع قتلا للعزائم والمواهب والهمم .
إنّ نزع التسييس من أنواع الإحتيال والخداع لصرف الأذهان عن التّفكير في مصائر النّاس والمجتمع وهي طريقة مثلى لإنتاج المواطن السلبي المعلول فاقد الوعي الشّخصي والإجتماعي المغيّب بشتّى وسائل الإستحمار لبيقى مقيّدا مستهلكا وإن ظن أنه حرّا منتجا فهو الأسير الذي لا يعلم أنّه ماسور . فمن مهمة المفكرين الثوريين الأحرار إنارة سبيل العامة والجماهير بتحصينهم من الإستلاب والإستحمار والتخدير والتضليل بتحفيز نباهتهم الفرديّة الذاتيّة وعيّا بقدراتهم وقيمتهم ومواهبهم إيمانا بذواتهم وحريّتهم وإرادتهم وأصالة كرامتهم وذلك بخلع طابع الخضوع والجمود وتبرير الواقع المعاش من عقولهم وبالنباهة الإجتماعية يكرّس الوعي الجمعي والهدف والمسؤوليّة الجماعية للتغيير وقلب المعطيات لصالح الطبقة المسحوقة المظلومة ونيل حقوقها ولكي لا يبقى المتعلّم جاهلا والمثقّف فاقد الشّعور .
من دواعي الثورة الفكرية معرفة وكشف وتعرية المسخ والزيف والتشويه في جميع مناحي الحياة من تربية وتعليم ودين وسياسة وإعلام وفكر إجتماعي وثقافة سائدة ووعي طبقي لمساعدة الجماهير ودفعها للخروج من منطقة الإنشغال والإهتمام والتخدير والتعويم والإيهام إلى منطقة المسؤوليّة والنضج والرشد فتحا للأبصار وتحريرا للمواهب ويقظة للعزائم والهمم . إنّ التغيير القهري التعسّفي كقلب الحكم أو عن طريق العنف والفوضى والظلم الذي يطال البشر والشجر لا يحلّ الإشكال ولا ينير درب الإنسان ويفتح له آفاق جديدة بل يطيل أمد المحنة والأزمة الروحية والمعنويّة وتضيع حقيقة الإنسان فيتعطّل التاريخ مجدّدا بإستبدال ظلم قديم بظلم جديد متجمّلا بمساحيق ثوريّة لإنه لا يغيّر نفوسا ولا يصنع إنسانا ولا يبني جيلا وإنما يغيّر كراسي ومناصب وحال بحال.
الهوامش :
_ القضاء والقدر د عمر سليمان عبد الله الأشقر
_القضاء والقدر د محمّد راتب النّابلسي
_الله والنّفس البشريّة الشيخ محمّد متولّي الشّعراوي
_لغز الموت د مصطفى محمود
_ماذا وراء بوّابة الموت د مصطفى محمود
_ النّباهة والإستحمار الشهيد علي شريعتي.