نبيل القروي أو إستراتيجيّة الذّئب السياسي: من الدّعاية إلى البيعة

Photo

نبيل القروي الإنسان ابن بيئته. كذئب الجبال التي تحوط مولده. لكنّه أيضا كأقوام ما وراء البحر الذين تتلألأ أضواء مدائنهم على شواطيء مدينته. إنّه جغرافيا متوسّطيّة تتنفّس شمالها هيأته ونمط حياته وقرطه وتسريحته ونظاراته الخواجاتية، وجنوبها الفقر والشّيب والدّمع والتّجاعيد. هكذا أخذ من أولئك بنصيب ومن هؤلاء. ثمّ أتى الموت فخطّ ملامح الخارطة، وغيّر الأشياء. ولأنّه، كما علّمه الإعلام أن ليس المرءُ ابنَ نفسه، فقد جعل العزاء مشاعا بين النّاس.

1 المشهد السياسي التّونسي وحضور الخطاب العزائي

يكاد يكون لكلّ طيف من الأطياف السياسيّة البارزة في تونس رمز في عالم الموت يستمدّ منه مشروعيّة عزائيّة في عالم السّياسة. فملفّا الشهيدين بلعيد والبراهمي من أثقل ملفّات الضغط السياسي التي واجه بها اليسار حركة النهضة. وقد وجد نداء تونس سنة 2014 في رجل الأمن سقراط الشارني والناشط السياسي لطفي نقض رمزين وظّفهما في خلق مناخ عزائي سياسي استعدادا للانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة. هذا، بينما تمطر صفحات النهضة نشطاء التواصل الاجتماعي في كلّ حين بصور شهداء الحركة لتوظيفها في سياق التذكير بالشرعيّة النّضاليّة أو في النّقد الدّاخلي.

ورغم أنّه يفترض في خطاب الحملة الانتخابيّة أن يكون ذا توجّه مستقبلي، ومن هنا تنبع فكرة "البرنامج"، فإنّه حين يستند إلى الميت/الشهيد يتحوّل إلى خطاب مشروعيّة فينزلق إلى الماضويّة وينزاح عن عالم الناس بقدر ما ينشدّ إلى عالم الموتى. ولكنّ الموت في المنظور السياسي لعالم الموت المغاير للمنظور الإكلينيكي، ليس موتا بمعنى النهاية بل هو دخول مقام جديد له علويّة على المقام الدّنيوي. ويشتغل السياسي بإلحاق تراث الميت من ممارسة وخطاب بصاحبه في مقامه العلوي. فالتصدير بمقدّمات مثل: يقول المرحوم/ يقول الشهيد...تضفي على المتلفّظ/الميت صفة الرّحمة/الشهادة لحظة تلفّظه خطابه. وهكذا يحاول السياسي أن يجعل الخطاب الذي تلفّظ به كائن تاريخي على الأرض خطابا مطلقا لامتزمّنا يُبثّ من عالم السّماء.

آخر فصول الاستثمار السياسي للموت في المشهد السياسي التونسي، أنشطة جمعيّة خليل تونس ذات الصبغة الخيريّة الظّاهرة والأهداف الدّعايويّة السياسية الخفيّة. تأسّست هذه الجمعيّة على يد نبيل القروي صاحب قناة نسمة سنة 2012 باسم جمعيّة ناس الخير. وبلغ نشاط الجمعية ذروته في أعقاب وفاة ابنه خليل القروي في حادث مرور صيف 2016. وواضح من اسم الجمعيّة ومن مسيرة صاحبها في حزب نداء تونس ودور قناته في دعم الحزب في تشريعيات 2014 ودعم رئيس الحزب في السّباق الرّئاسي أنّ الهدف منها سياسي. وهذا ما لاحظته الهيأة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري (الهايكا) حين عاينت تكرّر ظهور نبيل القروي في برنامج "خليل تونس" المعروض على قناته الخاصة في شهر رمضان من سنة 2017، فقرّرت وقف بث البرنامج وتغريم القناة. وتحوّل القروي إلى رقم سياسي صعب في المشهد الانتخابي فحاولت القوى السّياسية المتمكّنة في الحكومة وفي المؤسسة التشريعيّة استصدار قانون يمنع ترشّح أصحاب الجمعيات لعدم تكافؤ الفرص بينهم وبين الشخصيات الحزبية في الدعاية والتمويل. ورغم أنّ هذا القانون مُرّر في البرلمان فقد سقط نظرا إلى وفاة رئيس الجمهوريّة قبل أن يقع ختمه. وهكذا خرج القروي ناجيا من مغامرة تشريعية حاول خصومه اصطياده بها.

2 الموت والحياة في مسيرة البطل "المأساوي"

لقد بدا نبيل القروي في نظر قاعدته الانتخابيّة بطلا ضربه القدر مرّة بالموت وحماه بعد ذلك من بطش أعدائه. وهنا، يظهر الموت حليفا قويّا للقروي في ملحمته الانتخابيّة. ثمّ انتصرت غريزة الحياة بعد مقتل خليل فحبته بتوأم سمّاهما آدم خليل وزكريّاء خليل. كسره الموت مرّة ونصره أخرى حين مات الرئيس السّبسي فأنقذه موته من مؤامرة حاكها أصدقاء الأمس السّياسيّون ومعهم الأعداء الإيديولوجيون. وما إن أودع ملفّ ترشّحه للانتخابات الرّئاسيّة حتّى تناقلت وسائل الإعلام نبأ وفاة عمّه بعناوين مثيرة (11 أوت 2019). تبدو مسيرته الموجزة من أواخر سنة 2016 إلى أواسط 2019 ملحمة أسطوريّة يتنازع فيها الإيروس (غريزة الحياة) والثيناتوس (غريزة الموت). إنّ الطّابع القدري، من المنظور الشعبي الفلكلوري، جليّ في هذه المسيرة. وقد أكسبها هذا الطّابع سمة التّشويق فتحوّلت إلى سرديّة عُزلت فيها السّلطة أو غيّبت عنها وانفرد فيها الجمهور ببطله. فمنطق القدر لا تفهمه السلطة بجهازها المعرفي والتشريعي والأمني ولا البورجوازيّة بثقلها المالي، ويفهمه الشعب لأنّ الطّبقات الدّنيا، الفاقدة لعناصر القوّة الماديّة، تنسج تمثلها لنفسها من عناصر منها الرّمزي والأسطوري والقدري. والأمر شبيه بفكرة عودة الإبن الضالّ. يسترجع الشعب إلى حاضنته البطل الذي لقّنه الموت درس الحياة. فيكون الإبن المخلّص من الآلام. واللّحظة لا تُختزل في إشباع الحاجات المباشرة أو جَسر الفجوة بين الطّبقات الاجتماعيّة بل هي، حين يلهج الفقير بعبارة " يرحم خليل"، ترجمة رمزيّة للعلاقة بين الأرض والسّماء أي ما يمكن أن نسميه معادلة الرّحمة: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السّماء".

3 نبيل القروي وإستراتيجية بيت العزاء المنقول

يبحث السّياسيون في مجتمعاتنا التي لا تزال تعيش عصر ماقبل الحداثة السياسية في الموت عن خارطة طريق. ويبدو الميت في التوظيف السياسي في هذه المجتمعات أقرب ما يكون إلى "دليل" إلى السّلطة. تعيد المنظومة السياسية التي تتبنّى الميت/الشهيد إنتاج هويّته فتحوّله من حامل قضيّة إلى مصدر شرعية للكيانات السّياسية وللأفراد. وتعيد بناء هويّة خطابه فتحوّله من خطاب سياسي إلى "وصيّة". فالميت/الشهيد دائما على حقّ، ذلك أنّ عالم الموت في تمثّلنا هو "دار الحقّ" في مقابل عالم الحياة الذي نسمّيه "دار الباطل". ولعلّ ما يرجّح استعارة "الدّليل" أنّه يوجد في خطاب السّياسيّين الشعار/العهد: "إنّا على عهدكم دائمون وعلى دربكم سائرون". وقد يكون هذا العهد صادقا في الثورات الكبرى ولاسيّما لدى رعيلها الأوّل. ولكنّه، بالتقادم يستنزف الخطاب ويصبح من اللغة الخشبيّة أو تقرّبا إلى النّاخبين بالموتى والشّهداء في توظيف لاإنساني سافر لحرمة الموت. يأخذ السياسيون على الناخبين عهدا باسم قداسة الموت ويحوّلون الولاء السياسي والفعل الانتخابي نفسه إلى سلوك عزائي. وذلك أنّهم يتقمّصون دور "أهل الميت". وهذه الإستراتيجيّة راسخة في الصراع السياسي في التاريخ العربي الإسلامي. ومن المعروف أنّ لفكرة العزاء حضورا قويّا في الأدبيّات السياسيّة الشيعيّة. وقد ذهب الشيعة شوطا بعيدا في ترسيخها حتّى أدمجوها في العقيدة. فلا يزالون يستثمرون فكرة العزاء استثمارا فعليّا في الصّراع وفي كلّ فعل سياسي ويعقدون المجالس لتقبّل العزاء في الحسين بن علي.

ولكنّ إستراتيجيّة نبيل القروي الدّعايويّة مباينة للإستراتيجية العزائيّة المعروفة في الخطاب السّياسي المستند إلى قداسة الموت والتّمثّل بالشّهداء. إنّه لا يستند إلى رمزيّة شهيد حمل قضيّة وقضى نحبه دونها، بل إلى ظاهرة الثّكل وقد حوّلها من ثكل شخصي إلى ثكل وطني (خليل تونس).

4 عناصر الإستراتيجيّة:

إن الإستراتيجية المتّبعة في التّمكين للزّعيم السياسي تبدو بسيطة في شكلها، إلاّ أنّها عند التّأمّل دقيقة في تفاصيلها معقّدة في آليّاتها ثقيلة في عدّتها اللّوجستية والتكنولوجيّة والسيكولوجيّة. وتتكوّن هذه الإستراتيجيّة من عنصرين: الوقائع والخطاب.

أ-المغامرة/الوقائع

تتكوّن المغامرة من الوقائع التالية: 1 تلقّي الطلب من الذّوات المحرومة، 2 الانطلاق في جمع التبرعات لفائدة هذه الذّوات، 3 نقل المساعدات وتسليمها، 4 التصوير والمحاورة، 5 التركيب وعرض المادّة المسجّلة. وهي، من حيث بنيتها الخارجيّة، استراتيجية دوريّةCyclique لأنّ المرحلة الخامسة تفضي إلى تفاعل المشاهدين ونشطاء التّواصل الاجتماعيّ مع مادّة البرنامج فتظهر حالات جديدة من المعوزين والمحرومين وطالبي المساعدة كما يبرز أيضا متبرّعون أو واهبون جُدد. فالمرحلة الأولى منبثقة من الخامسة ومتّصلة بها. وأمّا الفواعل فمنها الثابت والمتغيّر. والفواعل الثابتة: 1 جمعيّة خليل تونس وطاقمها، 2 برنامج خليل تونس وطاقمه، 3 خليل القروي، 4 نبيل القروي.

الشخصيّات المتغيّرة: 1 المتبرّعون/الخليليّون والخليليّات، 2 المستفيدون.

وتلتقي هذه الفواعل في أدوار شبه تكراريّة. فجمعيّة خليل تونس تتلقى طلبات المساعدة من المعوزين وتبحث عن المتبرّعين وتسلّم المساعدات. وبرنامج خليل تونس التلفزي يحاور الشخصيات المستفيدة وينجز عمليات التّصوير والحوار والتقرير. وأمّا المتبرّعون فيتّصلون لتقديم هباتهم ويتابعون عبر البرنامج التلفزي على قناة نسمة إيصالها إلى المحتاجين.

ب-الخطاب

يرتكز تحليل خطاب إستراتيجية القروي الدّعايويّة على استعارة الدّليل ودعاء التّرحّم.

استعارة الدّليل

يعيد البرنامج إنتاج هويّات الفواعل الثابتة والمتغيّرة. فخليل يجرّد من لقبه العائلي لتسند إليه الإستراتيجيّةُ اسم "خليل تونس"، ومن ثمّ يُعاد توزيع هذا الإسم على شخص معنوي هو الجمعيّة التي تحمل هذا الإسم، وقد كان اسمها سنة التأسيس "ناس الخير"، وبرنامج تلفزي على قناة نسمة يعرض أنشطة الجمعيّة وتقاريرها وحواراتها. ومن خلال هذا الاسم يعيد البرنامج التلفزي، وهو لسان حال الجمعيّة، إنتاج هويّة الوطن (سمة الثّكل): خليل تونس، كما يعيد إنتاح هويّة المتبرّعين بنسبتهم إلى خليل (الخليليّون/الخليليّات). ويعيد البرنامج أيضا إنتاج هويّة نبيل القروي فيسمّيه "بو الزوّالي" (سند الفقراء)، ومن خلال هذا الاسم يعيد إنتاج هويّة الفئات المحرومة الفقيرة فيقدّمها على أنها فئات "يتيمة" بالمعنى الاجتماعي.

يشتغل الخطاب وفق استعارة الدّليل على نحو صريح. فالاستعارة ترد في "نشيد الخير" (يا خليلي) حيث تتجانس، لا من باب الصدفة ولا الحرص على التّحسين البلاغي، اسما "خليل" و"دليل":

يا قاصد الخير وأسراره *** طالب فضلك كون دليل
كون منارة تضوي عليّ ***كون أمارة وليّ ثنيّة [...]
آه يا خليلي *** كون دوايا وكون دليلي

إنّ النّشيد متقن الإنجاز نصّا ولحنا وإيقاعا وتصويرا وإخراجا. وهو عمل مدروس بعناية فائقة تتجلّى فيه بصمة التّخصّصات وحضور التّحليل السيكولوجي العميق. إنّه عمل ينمّ عن حفر عميق في الشخصيّة القاعديّة، وقدرة فائقة على توظيف آليات التّأثير السيكولوجي فيها وتوليد السلوكات المطلوبة. وللنشيد إيقاعان مرتخ وسريع. وهو، بذلك ومن حيث الآلات الموسيقيّة (القصبة والبندير) مُلحق بالنشيد الصوفي الشعبي أو ما يعرف في الفلكلور التّونسي بالحضرة. وهو نمط ذو امتداد عميق في التراث وله تأثير بالغ في نفسيّة التونسي وذائقته. وتعمّق اللّوازم (اللّه اللّه) الإيحاءات الصّوفيّة ويشعر المتلقّي المتشبّع من هذه الثقافة الفلكلوريّة بأنّه في حضرة الوليّ الصّالح (ومنه معنى الحضرة) الذي ينسب نفسه إليه نسبة بنوّة، إذ المريد يتوجّه إلى وليّة بعبارة (يا بابا). وتمتزج في كيمياء الدّلالة معاني الفقر الرّوحي بمعاني الفقر المادّي ليكشف الخطاب أن إستراتيجيّة القروي الدعايويّة مبناها على الجوع الهووي الديني والجوع المادّي البيولوجي. والواضح أنّ الإستراتيجيّة نجحت، من حيث الدّعاية الانتخابيّة، في قصف معاقل القوّة السياسيّة المتاجرة بالجوع الأوّل (النهضة والمكوّن الإسلامي) والقوّة السياسيّة المتاجرة بالجوع الثاني (اليسار السياسي وسنده النقابي). وذلك أنّها إستراتيجية انبنت على المزج بين الجوعين إلى حدّ الانصهار. ولكنّ ذلك ليس سرّ قوّتها الوحيد. فمكمن القوّة في إستراتيجيّة القروي التي تشارف في تصميمها وتصوّرها وتنفيذها حدود العبقريّة، هو تقاسم الأدوار في انسجام سمفوني بين المغامرة والخطاب. وذلك أنّ المغامرة (الوقائع/الأفعال) تشتغل بتنضيب الجوع بنوعيه هوويّا وماديّا، فيما يشتغل الخطاب بتخصيبه أيضا بنوعيه. فكلّ ما يهيّجه خطاب الجوع الديني (يا ربي من حنّك حنّ عليّ) وما ينكؤه خطاب الجوع المادّي من جراح طبقيّة (جينا فُقرة/جئناك فقراء)، كلّ ذلك يلتئم بالوقائع أي بالولائم والهبات وأفعال الخير التي تساهم الصورة والمؤثّرات في إخراجها بإبداعيّة فائقة. ويتعاضد في الإستراتيجيّة إبداع القراءة السيكولوجيّة بإبداع في القراءة السوسيولوجيّة للواقع الشعبي المهترئ سوسيواقتصاديّا. فهي عبارة عن ردم "دَيْن" الطّبقة الدّنيا بـ"فائض" الطبقة الوسطى. وذلك لأن المتبرّعين الذين تصهرهم الإستراتيجيّة في صلبها الخليليّون/ الخليليّات هم في الغالب الأعمّ من الطّبقة التي يحاصرها الخوف من التّردّي إلى أسفل الدّرك الاجتماعي بسبب الأزمة الاقتصاديّة القاتلة. وهي طبقة يسود فيها، إلى جانب شعور الخوف من ضبابيّة المستقبل، شعور التعاطف مع الطّبقات الدّنيا التي يسهل أن تتحوّل إلى بيئات حاضنة للإرهاب والجريمة.

إنّه إسلامي أكثر من الإسلاميين، شيوعي أبعد في شيوعيّته من الشّيوعيّين. وهو في المبدأ وفي النهاية ليس بهذا ولا ذاك.

دعاء التّرحّم

(يا ربّي ارحم خليل): ذلك هو نسغ المسألة. والدّعاء، كما في نهج التّداوليّين، عمل بالقول ولا يكون إلاّ بالقول. هكذا تبدو الرابطة بين القروي وجمهور حملته غير المعلنة، علاقة طعام بكلام وكأنّها قلب لمعادلة الجاحظ البخلائيّة رأسا على عقب. تبدو علاقة إنسانيّة خالصة. ولكنّ في دعاء الرّحمة سرّا لا تراه في كلّ عمل بالقول. إنّ في الدّعاء المُكيّف وفق مقتضيات الدّعاية الانتخابيّة شيئا من "الوعد" وشيئا من "العقود". فما إن يتلفّظ المستفيد/الممنوح بـ (يرحم خليل) حتّى يدخل باب الوعد أو العهد. يتشظّى الخطاب فيذهب منه ما للّه إلى الله (الدّعاء بالرّحمة للفقيد) وما لقيصر إلى قيصر (الوعد بالتّصويت للقروي). وهكذا يتشظّى الزّمن أيضا فيغدو المستفيد/الممنوح في العاجل ضحيّة/مانحا في الآجل. إنّه النّسق، حيث يجري الفعل والقول مجراهما في الآن والمكان، غير أنّ القصد، من مبدإ الأشياء، منوط بأجل معلوم (يوم التّصويت). وفي يوم الخلوة ينفرد الذئب بالشاة حين يخال الكائن الأعزل من كلّ مخلب وناب أنّه أدّى نذره وأنجز وعده. وعندها تستردّ الأشياء هويّاتها والمسمّيات أسماءها. فخليل تونس سيعود خليل القروي/القروي دون سواه، كما كانت نسمة قناة المغرب الكبير، فصارت قناة العائلة/العائلة لاغير.

وحين تصل بومة التّأمّل النّقدي لتعاين موقع الافتراس الجماهيري متأخّرة، ستدرك أنّ إستراتيجيّة الذّئب السياسي كانت دعايويّة ولم تكن دعائيّة. إنّ الأمر وما فيه أخذ بيعة على طريقة الأجداد السّياسيّين. كانت بيعة ولم تكن دعاية انتخابيّة.

تشتغل إستراتيجيّة البيعة كما تجري هنا، بالمساحة التي يحتلّها الخطاب الديني الثاوي في عمق لاوعي الجماعة: (إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله). فانظر في ذلك كثافة ذكر الله في النشيد. وتشتغل أيضا بالأخاديد التي حفرتها ملاحم الجوع على امتداد تاريخ البلاد.

والآن، وإلى أن تلقي الصناديق أثقالها، فإنّه من الجليّ أنّ ملحمة الذئب السّياسي جديرة بالنظر العميق. وبقطع النّظر عن أيّ محاكمة أخلاقيّة لإستراتيجيّة البيعة التي حاكها القروي ومن كان له ظهيرا في الدّاخل والخارج، فإنّ الإبداع في السياسة، حتّى ولو لم نكن ميكيافيلّيين، ليس بالضّرورة رديفا للخير والصّدق والمنفعة العامّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات