ثقافة الثورة وثورة الثقافة

Photo

السياسة تأخذ الجميع في مجراها وتجعل كل الأقلام سياسية بعلم وبدونه. يشبه الأمر منذ انطلاق الثورة حماس الشباب لمقابلة في كرة القدم. حتى أن اللغة السائدة تحللت إلى لغة الشارع وانحط الخطاب الجماعي في كثير من ردهاته إلى خطاب سوقي بليد وغير منتج. لكن ذلك عرضٌ لمرضٍ أعمق ترسَّخ في النفوس. سببه الأصلي المنع السابق من المشاركة في الشأن العام الذي انفجر لاحقا برغبة صادقة في المشاركة والتأثير بحسن نية غالبا وبدونها أحيانا. فهل نسير مع نهر السياسة وننسى بقية الأنهار التي تشكل العقل الجمعي وتوجهه في السياسي وفي الاجتماعي؟

إن الغائب الحاضر في كل تيه هو التغاضي المزمن عن النهر الثقافي الذي يحتاج إلى تحديد وحفر ليسوق في طريق آسن المياه الثقافية ويجدد الأشجار في النهر. فالنهر الثقافي ردمته العاديات وعشش فيه طحلب الانتهازية والتربح السريع.

إعادة تعريف الثقافة.

هذه مهمة عسيرة على قلم مفرد مهما حرَّكه الحماس ولكن الإشارة واجبة والتفاعل ضروري. ليست الثقافة منتجا جاهزا في مجالات الإبداع والإنتاج ولكن عمق الثقافة رؤية للعالم تتصنع بالتجربة المجتمعية الطويلة. فيها تصاغ المشاريع العامة والفردية وفيها تتآلف أطر التفكير والخيال وفيها يتراكب الواقعي بالعجائبي وفيها تبنى الجماليات والمشاريع التربوية على الجمال وفيها يتجدد الذوق. فكيف يشكل شعب رؤيته للعالم خاصة في سياق ثورة متفردة بسلميتها وطيبتها وربما تجوًّزنا إلى القول بغبائها الفطري ككل حركة عفوية.

رؤية العالم لا تتشكل بقرار قانوني أو كاريزما زعيم ملهم وإن كان لبعض الطُّلْعَات التاريخية إشارات فارقة في تشكيل وعي شعب من الشعوب. ولكنها تجربة تاريخية طويلة تلخص تفاعلات الناس بواسطة رموز يصنعونها بهدوء بناء على تجربة ممتدة. ويغربلون بها الانفعالات السريعة من التفاعلات الدائمة ثم ترسخ وتنقل عبر الأجيال ولكن تظل بعض الحوادث فيها علامات مرجعية. فالثورة علامة مرجعية في تشكيل وعي شعب لأنها تهز مسلماته وتنقض قديمه وتسائله عن جديده وتشحنه بالرغبة في إعادة البناء الجذري ولو لم تسل الدماء فيها أنهارا. إن الثورة في جوهرها عملية إعادة بناء صورة للعالم .عبر عملية إعادة بناء وعي تتجسد في المنتج الثقافي (الفني ) من قصيدة الشعر إلى الرواية إلى المنحوتة إلى الاغنية السائرة بين الناس. فإين ثورتنا من عملية إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم؟

حقل الانتاج الثقافي في تونس حقل محافظ.

بعد الثورة لم تتحرك عملية التجديد الثقافي قيد أنملة لا في التصورات ولا في الاشخاص. بل حافظت على دوائرها الفاعلة معتمدة على تماسك لوبياتها القديمة وتلاحم دوائر المصلحة والغنم من ثقافة التي يمولها القطاع العام ويوزع فوائدها على شكل رشى مجزية لإنتاج ثقافة ذات لون واحد. لم يحدث وزير الثقافة الشاب القادم من الجامعة اختراقا فعالا رغم وعييه بلوبيات انتاج الثقافي المزمنة. بل تعرض للهرسلة والتثبيط من قبل لوبيات منظمة في نقابات قوية. ولم تكن حكومته قوية لتطلق يده بالتغيير بما جعلها تهادن الموجود ثم تعيد إنتاجه في أول تحوير وذلك بإعادة الوزارة إلى حضانة انتاج الرداءة السائدة وترضية نفس اللوبيات المتنفذة. انتهى حلم تجديد المشروع الثقافي وبناء رؤية جديدة للعالم. وأحال المهمة إلى المثقفين أنفسهم من خارج الدوائر الرسمية. فهل هم قادرون على ذلك في ظل وضع سياسي يجذب الاقلام والعقول إلى اللّغو اليومي غير المنتج الا قليلا.

لقد تحولت وزارة الثقافة التونسية ومنذ مرحلة الستينات إلى مفرخة لنوع واحد من الطيور الداجنة. وهي لا تشعر بالعار إزاء الفقر الذي تروجه بين الناس. فنحن في تونس لا زلنا نعتبر الشابي(العشرينات) أكبر شعرائنا ونعتبر الدوعاجي (الثلاثينات) أكبر قصاصينا ونعتبر اغاني صليحة البدوية (الاربعينات) قمة طربنا. ولم نبدع في الرقص أكثر مما جمع لنا حمادي اللغبابي.(من يذكره؟)وكل الإبداع الفارق بعد ذلك أنتجه مثقفون طرفيون (آفاقيون) من خارج تمويل الوزارة. لقد كان أكبر طموح وزير الثقافة في كل المراحل أن يكتب خطاب الرئيس.

أين المثقفون الآن وهنا ؟

المثقف ليس الموظف في الثقافة وإلا لكان الجميع مثقفين. والمثقف ليس الجامعي المهموم برزقه اليومي مثل بقية خلق الله. سنجد هنا حاجة لخوض النقاش القديم الذي يفرز المثقف العضوي من المثقف الرجعي المحافظ. ويقرأ المواقف والانفعالات من وجهة نظر جامدة. وهذا النقاش سيتحول سريعا إلى فعل أكاديمي توصيفي /تصنيفي غير منتج للمثقفين.

المثقف يطرح سؤالا من خارج السائد كيف نركب صورة للعالم بناء على ثورة تغيير في العمق وتكرّ لديه سبحة الأسئلة عن المطلوب للمستقبل وليس فقط عن توسيع الموجود المتقادم بين يديه. إن اسئلته تخرج عن السائد إلى اقتراح الجديد منطلقا من وضعه المتحرك ومن رغبته في المشاركة في صنع الثقافة الكونية معتمدا محليته الخصبة.

ليس التجديد هنا إعفاء من نقد السائد بل أن نقده ضروري للبناء عليه في أفق قطيعة لا أفق تنظيف القديم وصقله فقط.

الغرور الثقافي القاتل.

لو حسبنا مقدار ما دفعت الدولة لأهل السينما من أجل الحصول على أية جائزة دولية معتبرة فسنجد فضيحة قياسية. لكننا رغم ذلك نصر على فرادة السينما التونسية والمسرح التونسي والأغنية التونسية. (نحن ننظر إلى مرآتنا ونفرح وحدنا بعرس لا يحضره مدعوون).

لذلك فإن الثقافة التونسية منذ ستين سنة ثقافة تعيد انتاج نفسها ولا تتقدم. وقد بنت لها أقانيم لا تحيد عنها. مثل القول بعراقة الثقافة التونسية وعمرها الطويل. ومثل إعلان الانتماء إلى ثقافة الحداثة والعصرنة. ومثل تمجيد الشخصية الوطنية التونسية الفذة المطمئنة إلى مكاسبها التي لا تتجدد في الواقع. وهي رؤية للعالم لكنها رؤية ستاتيكية تجمدت عن مرحلة البناء الوطني الأول. لقد كانت رؤية صالحة في أول الدولة الوطنية لبناء شخصية واثقة ومعتمدة. لكن مع الزمن تحولت الثقافة إلى نوع من مداعبة الذات المغرورة التي تتألم من التغيير. ثم تحولت كل عملية الإنتاج الثقافي وقد تبنتها الدولة إلى حيز ثقافي اقتصادي فئوي (قطاعي). يبتز فيه مثقفون أو بالأحرى صناع الثقافي(الفرجوي فقط) إلى أعوان دولة يبررون فعلها ويغنمون من أعطياتها ويرضون غرورها برعاية الثقافة والمثقفين. فالمثقف عندها وسيلة والدولة عند المثقفين وسيلة ليس أكثر إنه اتفاق ضمني على ترك الأمور على ما هي عليه لأن الوضع الجامد ضمان لفوائد الطرفين (منطق شيّْلني وأشيّلك) وهذا هو جوهر المحافظة الثقافية أي الثقافة الرجعية والمثقفين الرجعيين ولو تلبسوا لبوس التقدم والحداثة.

من وجوه هذا الجمود النكوص عن مراجعة أشكال الحداثة وخطابها فهناك صيغة استقرت لا يجب إعادة النظر فيها. على ضوء تجديد الخطاب الحداثي نفسه فضلا عن مقارعة عودة الخطاب الهوياتي في سياق العوملة المدمرة للهوايات الخاصة.

لقد أنتجب الثقافة التونسية اكليريوسها الخاص ومنه اختارت مسيريها (وزراءها) وكل إحساس بالتغيير يصير تهديدا بالموت يجب أن يرجم بالبيض أو بالحجر. لا يكفي في هذا الموضع أن يعلن المثقف نفسه تقدميا ليصير تقدميا وحداثيا. ولذلك فإن الثورة (التي يستميت إكليريوس الثقافة في تحقريها) ملزمة بكسر هذه الرؤية الجامدة للعالم واطلاق آليات التفكير في الثقافي من خارج الأطر الرسمية التي توشك أن تكون مقبرة الثقافة التي يحرسها حفارو قبور يتلبسون لباس التقدمية. من سيفعل ذلك؟ الأكيد أن تجديد النسق الجامد يتم بكسره لا بإعادة دهنه بألوان فاقعة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات