من خلال ما يتواتر من تصريحات الأحزاب المشاركة في مفاوضات تشكيل الحكومة، وتحديدًا التيار والشعب، ومن خلال ما صدر عنهما من بلاغات تتكشف جوانب من حقيقة المفاوضات ومآلاتها:
1 - انسحاب التيار والشعب رغم حصولهما على ما طالبا به وربما أكثر ، وهو ما يعني أنهما كانا منذ استئناف المفاوضات مع مبادرة حبيب وجوهر، لا ينويان المشاركة في الحكومة تأتي تصريحاتهما في إطار التتليف وتهيئة الظروف لصيغة أخرى.
2 -الحزبان كان يراهنان على سيناريو آخر هدفه إزاحة النهضة من الحكم، بإنهاء الآجال القانونية لرئيس الحكومة المكلّف، والوصول إلى صيغة "حكومة الرئيس". وقد مثّل اجتماع يوم أمس بين رئيس الجمهورية والأحزاب الأربعة (التيار، الشعب، النهضة، تحيا) مقدمة لهذا السيناريو. وقد رشح أنّ تكليف رئيس الجمهورية ليوسف الشاهد كان مطروحا على الطاولة. ويبدو أنّه صار الشاهد سلطانًا على رئيس الجمهورية الذي لم نسمع به موقفا مما يجري في موضوع تشكيل الحكومة والمفاوضات المتعلقة بذلك.
3 -الجملي ومن ورائه الغنوشي فهم بأنّ الاجتماع المنعقد برئاسة الجمهورية لا يخرج عن السيناريو المذكور فبادر إلى إعلان انتهاء المفاوضات مع الأحزاب بعد التوصل معها آلى ضبط تركيبة الحكومة ولم يبق إلا اللمسات الأخيرة. والدخول في تكوين حكومة كفاءات وطنية مستقلة عن الأحزاب. وهذا بمثابة قطع الطريق على السيناريو السابق الذي قد يكون فيه الثلاثي التيار، الشعب، تحيا، وقد يكون تأليفًا آخر من المكونات المذكورة.
فكانت ندوة الجملي الصحفيّة قطعًا للطريق على السيناريو المذكور وإحباطا لمحاولة توجيه لمهمة تشكيل الحكومة وفكرة إزاحة النهضة. فالغنوشي أحبط هذه المحاولة الالتفافية وفتح الصراع على محطات جديدة ومثيرة.
4 -حكومة الكفاءات الوطنية تؤجل الأزمة ولا تفتح منافذ باتجاه حلها. وقد تحصل الحكومة على المصادقة من المجلس، ولكن ذلك لن يمكنها من العمل الفعلي والدخول في إصلاحات فعلية وعميقة.
حكومة الكفاءات الوطنية هي حكومة النهضة وقلب تونس وما جاورهما، وسيتأكد هذا يوم التصويت على منحها الثقة بالمجلس.
بالنسبة إلى الرأي العام حصل عنده نوع من التكافؤ الأخلاقي بين المعنيين بتشكيل الحكومة جميعا فلم يعد في اشتراك النهضة في تشكيل الحكومة مع قلب تونس إدانة أخلاقية ولا في تشكيلها بين التيار والنهضة شهادة امتياز اخلاقية وسياسية. فالتكافؤ الأخلاقي صار من ثوابت المشهد إلا عند من مازال على مراد الله.
وليس في هذا دفعًا نحو "الشنقة مع الجماعة خلاعة" ولكنها الحقيقة المرّة التي قد نطلع قريبا على ما هو أمرّ منها.
5 -تستمرّ النهضة طرفًا في الاستقطاب الرئيسي الذي تعرفه البلاد. ولم يتغيّر المشهد إلاّ في الصف الأول المواجه للنهضة ويتمثل في أحزاب محسوبة على الثورة ومن خلفها السيستام بوجهه المدقرط (تحيا تونس، يشبه للتيار) ووجهه الفاشي (عبير تشبه للشعب). أمّا الوجه المافيوزي للسيستام (قلب تونس، فيه شبه من النهضة) فحاله كحال ائتلاف الكرامة، يقف كلاهما في هذه المعركة بين النهضة والمجاميع المذكورة.
وكلاهما منقسم على قاعدة العلاقة بالنهضة، فقلب تونس، في شق كبير منه، مستعد للحكم معها، وائتلاف الكرامة لم يعد له بعد شهرين من نتائج الانتخابات مجال للمناورة.
6 -جوهر المعركة بين النهضة وخصومها على الحكم في ضوء انتخابات لا فائز حقيقا فيها، فبقدرما تسعى هي إلى استدامة وجودها في مواقع القرار رغم غياب شروط الحكم، فإنّ خصومها من التيار والشعب وتحيا والدستوري ومن يدعمهم هو إخراجها من الحكم، وسيكون هذا في مستوى رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان.
ويمكن لهذه المتل البرلمانية إذا استطاعات استقطاب جزء من قلب تونس ونواب الإصلاح الوطني واضطر أداء النهضة ائتلاف الكرامة آلى البقاء على الحياد...في ظل هذا يمكن لهذه الكتل كسب المعركة (إزاحة النهضة عن الحكم) وسيكون سحب الثقة من رئيس مجلس النواب المحطة القادمة. وسيعطي التصويت على حكومة الكفاءات الوطنية ملامح هذا التوجه وحظوظ نجاحه.
7- تبقى الانتخابات السابقة لأوانها المخرج من هذا المشهد بعد أن تبلغ الأزمة ذروتها.
ما شهدناه ونشهده من فرز على قاعدة تشكيل الحكومة هو نفسه الفرز الذي ستكون على قاعدته المعارك القادمة، وهو ما سيدفع الى تبيّن حدود السيستام الجديدة وممثليه الخفي منهم والجليّ.
كل ذلك في ظل أزمة مالية واقتصادية متفاقمة وديمقراطية تمثيلية تترسخ قدمًا رغم احتداد الأزمة وتشعبها.