لا أحد يُمكن أن يُنكر مجموعة التحوّلات التي تشهدها حركة النهضة والتي أثّرت في واقع البلاد بخرائط طريقه وتعدّد معاركه. ولا أحد يمكن أن يتجاهل الحراك الذي تشهده حركة النهضة التونسية هيكليا ومرجعيا والذي أثار سجالات داخلية ونقاشات خارجية.
وبينما يرى البعضّ أنّ هذه التحوّلات في الخطاب والممارسة لدى قيادات حركة النهضة ورموزها تعكس قابلية لدى الإسلام السياسي التونسي على التطوّر ومواكبة التغييرات التي تشهدها الخارطة الجيو-سياسية محليا وإقليميا ودوليا، يرى البعض الآخر أنّ التحدّي المطروح على حركة النهضة ليس في تحويل الوجهة الثقافية والدعوية للحركة نحو تأكيد الوجهة السياسية المدنية للحزب، ولكن إثبات قدرتها على إقناع الآخر بأنّها بصدد تغيير ثوبها وليس فقط التجمّل لإقناع المُجتمع المحلّي والدولي أنّها غير معنية بعنف "الإسلام الراديكالي" ولا بالفتاوي الداعية إلى تحويل الحياة إلى جحيم أرضي.
الأكيد أنّ ثقافة المُغالبة لدى قواعد حركة النهضة التونسية وبعض قياداتها الوسطى، والتي كرّستها نتائج انتخابات 2012، عمّقت الهوّة بين الإسلاميين والعلمانيين من جهة، وبين الإسلاميين "الديمقراطيين" والإسلاميين "الراديكاليين" من جهة ثانية. والأكيد كذلك أنّنا حين نستقصي مآلات الواقع السياسي التونسي وتخومه نكتشف أنّ الإسلاموفوبيا باتت مرضا يُعاني منه اليسار واليمين على حدّ السواء. إذ تحوّل الخوف والتخويف من تهمة الانتماء إلى الإسلام إلى خوف جوّاني يُعاني منه جلّ المُجتمع التونسي. حيث ارتدّ صدى التخويف على أصحابه فأصبح "الإسلامي" يتساءل وبشدّة عن حقيقة هويته "الإسلامية" وما الذي دهاها حتى تصبح سببا في إقصائه من المشهد الجديد؟ بهذه الفوبيا المُركّبة والخوف المُتراكب دخلت حركة النهضة مرحلة تسويات داخلية عكستها ورقات مضمونية تنوي الحسم من خلالها في مآلات الحزب/ الحركة - الفكرية والسياسية والهيكلية- وتعتزم توسيطها من أجل الإجابة عن أسئلة حارقة أجّلها المؤتمر التاسع، ورحّلتها السياقات إلى المؤتمر العاشر الذي يُفترض أن يكون استثنائيا شكلا ومضمونا.
ما يمكن ملاحظته أّنّ هذه التحوّلات لها سياقاتها الفكرية والاجتماعية، إضافة إلى إكراهات السياسة التي تفرضها مصالح وأهداف من رسم الخارطة الجديدة للعالم العربي-الإسلامي. وكذلك المُلفت للانتباه قدرة السياسة على جعل الجماعات تكره ذاتها وتتنكّر إلى مرجعياتها حتى أصبح كلّنا يكره كلّنا وجميعنا يتّهم جميعنا. وما نعاينه دون أي عناء أنّ البراغماتية لدى السياسيين لها قدرة عجيبة على تحويل الأصدقاء إلى أعداء والأعداء إلى أصدقاء في لمح البصر.
ليس المجال، في ما نحن بصدده، الحديث عن معاينة تغيّر في درجة الإيمان ولا عن تراجع في منسوب العقائد، بل عن تجلّيات تبرق أمام أعيننا تجسّم خوف الأنا (النهضة) من الهوية "العربية الإسلامية" وأوّل المُفزعات أن نقتنع بأنّ الإسلام نقيض الحداثة وأن يكون الطريق إلى الديمقراطية هو التخلّص من شبهة الإسلام. وقياسا على ذلك أن يكون "المُسلم الديمقراطي" طمسا لقيم الإسلام في عقول السياسيين.
ولعلّ السؤال الذي يطرح نفسه، رغم عدم انتباه بعضنا إلى أهميته، كيف أمكن أن تُبنى مثل هذه التفاعلات ونحن نعيش واقعا مُتحرّكا ومُجتمعا ثائرا برهانات جديدة وأسئلة تتجاوز الهويّات؟ كيف وصلت "الجماعة" أو من أوصلها إلى الحيرة والشكّ في تعريف هويّتها والهروب من تاريخها وأصولها والتنكّر لـ"المُشترك" بين فاعليها القدامى والجدد؟
لقد تمّ ذلك للأسف باتهام بعضنا البعض بالإرهاب والإرعاب، إذ كلّ جماعة تتهم من ليس منها بالرجعية واللاّحداثية ومن لم يكن حداثيا حقّ استباحة حريته فيسجن أو ينفي حتى لو كان مُجتمعا بأسره. وإذا أريد للإقصاء في تونس أن يتمنهج فما عليه إلاّ أن يلبس لبوس الحداثة والتقدّمية. وإذا أريد للفوبيا أن تتعقلن فما عليها إلاّ أن تتخذ عنف الدين ذريعة لإقصاء الآخر.
هذه التجلّيات طرحت أسئلة لدى العامة قبل الخاصة: ما طبيعة هذه النفس البشرية المهوسة بالإقصاء وما هي بنية هذه العقول المريضة بفوبيا الآخر المُختلف شكلا "ما يشبهوناش"؟
قد نجد بعض الإجابة في التحليل النفسي الذي يرى أنّ هذا النوع من الهوس هو بالدرجة الأولى من أعراض العجز، إذ لا قوّة في إقصاء الآخر. إنّ العقول الموبوءة بفوبيا (اليسار أو اليمين) بنفس مُقاربة التحليل النفسي، تحتاج أولاً إلى إمكانية نفي الآخر لحل النزاع الذي يتجاذبها داخليا، هذا النزاع هو ما تواجهه الرغبة من صعوبة في التحول إلى واقع. وأثبتت التجربة أنّ هذه العقول المهوسة بحنون الهيمنة على مؤسّسات المُجتمع تواجه صعوبة في التحقق داخل الواقع فلا تجد حلاّ لعجزها إلاّ بممارسة الإقصاء سواء بقتل الآخر أو بالانتحار.