الجزء الأوّل : ملاحظات حول مقال 'المستحيل بين اليسار و الاسلاميّين' (1)
- 1مقدّمة : كلمة صدق أريد بها باطل.
يبدأ الصّديق نورالدّين العلوي قائلا ما يلي:
" أنطلق من تصريح " د.مصطفي بن جعفر" زعيم حزب التكتل الديمقراطي (تونس) لوسائل الاعلام حول نتيجة تحالفه السياسي مع حركة النهضة في المرحلة الانتقالية (2012-2014) والذي انتهى فيه إلى أن تحالفه مع النهضة قد كلفه ثمنا غاليا، جاعلا من المتلقي ينتهي إلى أن كل تحالف مع حزب النهضة الإسلامي هو تحالف مميت. ولكن من قتل "بن جعفر" وحزبه فعلا؟. "د. بن جعفر" سياسي مخضرم وديمقراطي معلن منذ خروج جماعة الأحرار من حزب الدستور سنة 1971عن الإجماع البورقيبي وتأسيسهم لتيار حقوقي ديمقراطي كان من نتائجه تأسيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان. وقد واصل نضاله السياسي حتى الثورة تحت يافطة حزب التكتل وتحالف مع النهضة رغم رصيده النيابي القليل وسمح له ذلك بترأس البرلمان (المجلس التأسيسي) إلى حين إصدار الدستور وانجاز انتخابات 2014. ينتهي الآن في تقييم مسيرته إلى أن هذا التحالف قد قضى عليه. لكن لا يوضح الكيفية وإنما يكتفي بأن شارعا ما عاقبه على هذا التحالف. لقد اُتُّهِم بخيانة قواعده وناخبيه لكن لماذا تعتبر جماهير الحزب العريضة أن التحالف مع النهضة خيانة؟) " نتهى الاقتباس)
كلّ هذا الكلام صحيح لأنّه وصفي. لكن الانطلاق من هذا الكلام في مقال يحمل عنوان 'المستحيل بين اليسار والاسلاميين' هو الباطل. انه ينطلق من تصريح زعيم سياسي لم يقل يوما عن نفسه انّه وحزبه يساريين لاستغلاله في ذمّ اليسار بشكل عام –والذي هو يسارات متنوعة في الواقع وسنعود الى ذلك لاحقا.
ان السيد بن جعفر وحزبه أقرب الى الوسط الديمقراطي الاجتماعي التونسي منه الى اليسار التونسي التاريخي عموما. وهو و حزبه كانا – مع التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم وغيرهما - أعضاء في الاشتراكية الديمقراطية الدولية التي ابتعدت عن تقاليدها اليسارية التاريخية و اتجهت أكثر نحو الوسط بل ونحو اليمين.
ان الصّديق نورالدين العلوي يعرف هذا جيّدا بل ويعترف به عندما يصف حزب بن جعفر بالتيار' الحقوقي الديمقراطي' ، الا انه سرعان ما يوجه تحليله عمدا في اتجاه هدف ذمّ اليسار عموما... ومدح الاسلاميّين كما سنرى.
2- 'النهضة لحمة الكرومة' :
قبل البدء مع الفقرة الثانية لا بد من كلمة.
يتناسى الصّديق نورالدّين العلوي أمرا مهمّا : عند الحديث عن الاسلاميين و اليسار لا يوضح لقارئه أمرين:
الأوّل :
هل المقابلة بين اليسار والاسلاميين تعني كون الاسلاميين في اليمين أم في الوسط أم هم يسار آخر؟ ' يسار اسلامي' مثلا. ( سيتضح الأمر في آخر المقال)
الثاني:
ما هو موقع الكاتب نفسه سياسيا ...و الذي هو كما أعرف اقرب الى الوسط الديمقراطي الاجتماعي من غيره خاصة وانّ الحزب الذي يناصره –المؤتمر سابقا و الحراك الآن - يقول عن نفسه انه أقرب الى الأحزاب الوسطية ذات المنحى 'العروبي العلماني الديمقراطي ' كما يقول عنه رئيسه و حلفاؤه أحيانا كثيرة.
أعود الى الفقرة :
ينطلق الصّديق نورالدّين العلوي من المثل الشعبي التونسي 'لحمة الكرومة متّاكلة ومذمومة'.
يقول:
" في المثل التونسي الشعبي أن لحمة الكرومة (عنق الخروف) متّاكلة ومذمومة. إنها قطعة لذيذة من لحم الخروف الجميع يحبها، لكنها ليست لحمة يفخر آكلها (في عالم يكون الفخر فيه بكبر قطعة اللحم على الجفنة). مثل بن جعفر كمثل آكل لحمة الكرومة. رغب في رئاسة المجلس بقوة الإسلاميين وصرح في مجالسه أن الدستور سيسمى ذات يوم بدستور بن جعفر ورغم الموقع القيادي الذي وضعه فيه تحالفه مع النهضة ورغم خيانته لحليفه القوي يوم أغلق المجلس موفرا فرصة لاعتصام الرحيل لينقض على الحكومة فإنه لا يقرُّ بهذا الفضل ويرى فقط نهايته متهما بها النهضة دون أن يسأل جمهور حزبه ما الذي في النهضة ليهرب منها؟ جمهور حزب التكتل في غالبه جمهور حداثي بميول يسارية أو هو يساري متخف في إيهاب ديمقراطي. وقد اعتبر منذ البداية أن تحالف بن جعفر والمرزوقي (المؤتمر من أجل الجمهورية) مع النهضة قد أنقذ النهضة من مقصلة العزل السياسي و الاقصاء. وقد حوسب الرجلان من قبل الشارع اليساري والحداثي على هذا التحالف. لقد كان مطلوبا من الجميع أن لا يقترب من النهضة حتى تجد نفسها واقفة في صف وحدها فتحكم وحدها (باعتبار الأغلبية) حتى تفشل وتسقط وتتلاشى (وقد كان هذا موقف نجيب الشابي يوم أعلن المعارضة قبل تشكيل حكومة الجبالي) لكن تحالف الحزبين معها أنقذها وبالتالي عليهما دفع الثمن. ليست النهضة من يقصي إذن بل هي التي تتعرض للإقصاء وهنا نعود إلى السؤال الأصلي في العنوان لماذا لا يقوم هذا الحوار بين الإسلاميين واليسار (بكل فصائله) في تجربة بناء الديمقراطية التونسية خاصة والعربية عامة؟) " انتهى الاقتباس)
****
انّ هذه الفقرة الثانية من المقال مثال جيّد عن التلاعب بالعقول. فبعد أن كان بن جعفر مؤسسا لتيار حقوقي ديمقراطي يصبح يساريا بسبب كون 'جمهور حزب التكتل- الذي لا نعرف كيف تم التثبت من هويته – في غالبه جمهور حداثي بميول يسارية أو هو يساري متخف في ايهاب ديمقراطي.". ويبدو انه مثل حزب نجيب الشابي أيضا .
ورغم ان الصديق نورالدين العلوي يعرف جيدا كون الحزبين كانا خليطا من اليساريين السابقين والاسلاميين السابقين والقوميين السابقين والاشتراكيين الديمقراطيين الا انه لا يرى هذا ويصرّ فقط على الصفة اليسارية.
من ناحية أخرى، انه لا يرى 'التخفي الديمقراطي' سوى عند من كان من اليسار و ينسى الآخرين طبعا.
و من ناحية ثالثة ، ونذكر هذا الآن فقط و سنعود اليه ، ينسى الصديق نورالدين التخفي الديمقراطي عند أحزاب بكاملها... مثل النهضة.
ان قولك : ' ليست النهضة من يقصي إذن بل هي التي تتعرض للإقصاء وهنا نعود إلى السؤال الأصلي في العنوان لماذا لا يقوم هذا الحوار بين الإسلاميين واليسار (بكل فصائله) في تجربة بناء الديمقراطية التونسية خاصة والعربية عامة ؟" كان سيكون فعلا قولا مهما لو طرحته دون الانطلاق من مثال خاطئ لسببين:
-الأول بسبب كونك انطلقت من مثال حزب غير يساري أصلا.
-والثاني – حتى لو كان ذلك الحزب يساريا- كون ذلك الحزب تحالف مع النهضة وندم و هو لا يريد اقصاءها الآن بل هو الذي يقصي نفسه من فكرة اعادة التحالف-لا غير- معها و ذلك لا يعني اقصاءها. وهو حزب لا يستطيع الاقصاء أصلا حتى لو فكر في ذلك عموما.
وبالتالي فان عودتك الى السؤال الأصلي ' لماذا لايقوم هذا الحوار...' من هذا الباب هي عودة... من الباب الخطأ .
و قبل العودة الى مثلك الشعبي اليك هذه الملاحظات المختصرة أيضا:
- عنوان المقال هو 'المستحيل بين اليسار و الاسلاميين' و أنت تحدثت عن تحالف التكتل الديمقراطي –الذي تعتبره يساريا- مع النهضة : هذا يعني انه لا يوجد مستحيل بما أنه تحقق و كان ممكنا.
- سؤالك الذي أنهيت به الفقرة هو " لماذا لا يقوم هذا الحوار بين الإسلاميين واليسار (بكل فصائله ( في تجربة بناء الديمقراطية التونسية خاصة والعربية عامة ؟" هذا يعني أمرين:
من ناحية أولى اعترافك (من خلال عبارة 'بكل فصائله') ان المثل الذي انطلقت منه لا يمثل كل الفصائل.
من ناحية ثانية تراجعك عن هذا الاعتراف بسرعة نظرا لأنك تلخص الاسلاميين في النهضة وتنسى‘ فصائل أخرى مثل حزب التحرير و السلفيين مثلا.
في الواقع يا صديقي: عنوان مقالك غير دقيق تماما و هو موجّه –كما المقال- في اتجاه واحد ...و يخطئ فيه علم الاجتماع الطريق تماما.
و حتى نعود الى المثل الشعبي المذكور أعلاه نقول ما يلي:
يا صديقي ، أنت تنسى أمرا مهمّا : أن تفرّق بين من
- يرفض الأكل من لحم النهضة اصلا ( وينقسم هؤلاء الى من يرفض أكل لحمها فقط و من يريد حرق لحمها و ابادته تماما)
- و من يأكله و يذمّه
- و بين من يأكله و يمدحه... وهنا بيت القصيد...عندك. أو هكذا يبدو لي.
3- 'تجارب إقصاء الإسلاميين تتعدد وتتشابه'...و ماذا عن تجارب اقصاء الاسلاميين لغيرهم؟
تقول يا صديقي في النصف الأول من فقرة نصك هذه :
. " إن خلفية الانقلاب العسكري في مصر وخلفية تحول الثورة السورية إلى حرب أهلية وخلفية حرب على صالح في اليمن على الثورة اليمينة . هناك إجماع يساري عربي على عدم التعامل والتنسيق مع الإسلاميين حيث ما ظهروا وهناك اتفاق بين التيارات القومية على قطيعة جذرية مع تيار الإسلام السياسي والذي يعتبرونه كله حركة الاخوان المسلمين منذ حادث المنصة (الزعم باغتيال عبد الناصر( . لقد حدثت حالات تعاون بين هذه التيارات في ظل الدكتاتورية وكانت انتخابات النقابات المهنية قد شهدت تعاونا وتنسيقا، وكان جمهور الإسلاميين يشكل قاعدة ناخبة مطيعة ومفيدة. وكانت حركة 18من أكتوبر 2005 بتونس حالة من التنسيق السياسي الذي شارك فيه الإسلاميون. كما جرت حوارات كثيرة صلب اللّقاء القومي الإسلامي بين تيارات قومية وإسلامية طيلة التسعينيات وفي أول الألفية. وقد أثمرت أدبيات وتنظيرات تؤسس لتعاون سياسي مستقبلي. لكن بعد الثورة العربية انقطع حبل الود وتبين أن التنسيق كان هشّالا(أو مغشوشا) وأن أغلبه كان ترصّدا لجمهور الأحزاب الإسلامية ليتَّخذ مطية لأمثال حمدين صباحي (مصر)أو نجيب الشابي (تونس) ليصل على أكتافه إلى السلطة (وكان بن جعفر أحد الذين حكموا بهذا الجمهور)." (انتهت الفقرة لأولى من العنصر الثالث
طيّب،
أوّلا:
أنت تنسى انه في مصر تنكر السلفيون لتحالفهم مع الاخوان بايعاز سعودي طبعا .ثم تنسى ان تحول الثورة السورية الى حرب أهلية ناتج أيضا عن حمل الاسلاميين للسلاح بمساعدة سعودية-قطرية-تركية و دولية.و أنت تنسى ان ما جرى في اليمن هو بالعكس انقلاب على الثورة اليمنية بمباركة امريكية سعودية دفعت على عبد الله صالح الى التحالف مع الحوثيين ضد الحكومة التي يقودها عبد ربه منصور الموالي للسعودية ولا أعرف لم تنسى ان الحوثيين أيضا اسلاميون، هل لأنهم شيعة زيدية؟
ان عبارة "… بنيت على منع الإسلاميين من الحكم والمشاركة فيه" خاطئة يا صديقي نسبيا ليس فقط لأنّ اسلامييك كانوا لا يرغبون في 'المشاركة في الحكم' بل في احتكاره في الأمثلة الأخيرة التي ذكرتها – وهم بذلك يشتركون مع خصومهم في نفس الصفة- بل لأنهم أيضا – في سوريا خاصة – حولوا البلاد الى ساحة حرب دولية باستقبال من هبّ و دبّ بتمويل من تعرف.
ثانيا:
تقول ' هناك إجماع يساري عربي على عدم التعامل والتنسيق مع الإسلاميين حيث ما ظهروا وهناك اتفاق بين التيارات القومية على قطيعة جذرية مع تيار الإسلام السياسي والذي يعتبرونه كله حركة الاخوان المسلمين منذ حادث المنصة (الزعم باغتيال عبد الناصر). "
طيب لنفترض ان ذلك صحيحا. السؤال هو لماذا؟
أنت طبعا – في مقالك هذا- اخترت اتجاها واحدا في الاجابة وهو ان اليسار العربي و القوميين العرب هم المخطؤون. ولكن ألم تسأل نفسك عن احتمال وجود شيء يوجد في الاسلاميين ينفّر الجميع منهم هكذا؟
دعنا من عبد الناصر و الاخوان في مصر و دعنا من اليسار العربي و سأذكرك بشيء بعيد عن يساريّتي حتى لا تقول عني متحاملا على الاسلاميين.
اقرأ يا صديقي : يقول راشد الغنوشي 'المعتدل و الوسطي' حول القومية العربية ما يلي:
""… القومية في العصر الحديث إنما دعا إليها و نشر فكرتها قوم لا ينتمون الى أمة الإسلام بل أكاد أقول لا ينتمون حتى إلى العرب و إنما هم من بقايا الصليبيين في الشرق أمثال أنطوان سعادة و اليازجي و ميشال عفلق و عزوري و تلقفها عنهم مسلمون منحرفون أو بسطاء غير واعين لحقيقة الإسلام وكان ظهور القومية العربية مرتبطا بالبرنامج الصهيوني في الشرق…والصهيونية أثارت في بلاد العرب " النعرة القومية العربية (…) و فضلا عن ذلك فان الدعوة القومية دعوة رجعية لا بالنسبة للإسلام فقط الذي يدعو إلى مجتمع عقائدي إنساني بل حتى بالنسبة للعصر…"( ماذا تقول في القومية العربية؟-مجلة المعرفة- فيفري 1979- ص 19).
بالله عليك يا صديقي،كيف لا تريد من القوميين العرب أن ينفروا من الاسلاميين و هم يصفونهم بالصليبية و بالانحراف عن الاسلام و ينكرون عليهم حتى عروبتهم و يتهمونهم بالارتباط بالصهيونية و يعتبرون دعوتهم رجعية؟
طبعا لا حاجة لي و لك بالتذكير بمواقف الاسلاميين من اليسار فهي أشنع و تصل الى التكفير بالنسبة لمن يريد تحقيق " مجتمع عقائدي انساني".
لماذا لا ترى العيب الا في اليسار العربي و القوميين العرب اذن؟
في الجزء الثاني من الفقرة السابقة قلت انّه وقعت حالات تقارب و تنسيق في مصر و تونس و داخل المؤتمر القومي الاسلامي،الخ. ولكنك وجهت التحليل وجهة أحادية عندما انهيت الفقرة قائلا ان ذلك " كان ترصّدا لجمهور الأحزاب الإسلامية ليتَّخذ مطية لأمثال حمدين صباحي (مصر)أو نجيب الشابي (تونس) ليصل على أكتافه إلى السلطة (وكان بن جعفر أحد الذين حكموا بهذا الجمهور)."
فليكن ذلك كما أردت. ولكن ألم تتساءل حول احتمال كون ذلك هو نصف الحقيقة فقط لا كلّها؟
ستقول لي : و ما هو نصفها الآخر؟
هذا : مثلما كان بعض غير الاسلاميين يبحث عن مطية انتخابية متمثلة في جمهور الاسلاميين كان بعض قادة الاسلاميين يبحثون عن واجهة ديمقراطية من خلال مطية الأحزاب غير الاسلامية.
و لكنّك لا تريد أن ترى هذا أو تراه و لا تقوله مع الأسف. خذ عندك مثل حزب المؤتمر من أجل الجمهورية- الحراك مثلا .استعمل 'مطية علمانية' تظهر استعداد الاسلاميين النهضاويين للتعايش مع غيرهم و لكن عندما انتهت مهمته و ظهر من يعوضه –نداء تونس- أهمل و اتهم من قبل الشيخ عبد الفتاح مورو بكونه الجار الذي يحاول افساد أبناء النهضة.هل تذكر؟
و ها انّك في بقيّة فقرتك هذه تواصل ايجاد التبريرات لطرف دون الآخر.
تقول:
" كما يمكن أن نضيف أن ارتباك الوضع السياسي الانتقالي الحالي في تونس ناتج بالدرجة الأولى عن هذا التنافر اليساري الإسلامي. فقد وجد الإسلاميون أنفسهم في وضع الاختيار الصعب بين وضع المعارضة المهددة بالإقصاء ووضع التحالف/التوافق مع خصم سياسي لم يكنَّ لهم الخير طيلة تاريخهم. فاختاروا ما رأوه أهون الشرين بالنسبة لهم. بعد تجربة في الحكم جعلها اليسار علقما بتنسيق قوي وفعال مع حزب النداء (وريث النظام القديم ومجدده) في اعتصام الرحيل الذي أسقط حكومة الترويكا في بداية سنة 2014. هذا الاختيار أنقذ النظام القديم من التلاشي وأعطاه نفسا جديدا ويجري الآن تبادل الاتهام بين اليسار التونسي وتيار الحداثة عموما (رغم أن فيه عمقا ندائيا) والاسلاميين بإنقاذ النظام الذي قامت عليه الثورة. فاليسار يتهم النهضة بإنقاذ النداء فيرد الإسلاميون إن الانقاذ بدأ واكتمل بتكوين جبهة الإنقاذ التي كان حزب النداء عصبها الأساسي طيلة سنوات 2012 و 2013 و2014. وقد كشف الصراع حول قانون عزل التجمعيين( ) النداء عمق هذا الاختلاف واستعداد اليسار ليكون مطية لعودة النظام من خلال رفضه قانون العزل السياسي.(رغم أنه عزله بالقانون الانتخابي لسنة 2011 الذي وضعته هيئة "بن عاشور" اليسارية والحداثية في أغلبها والتي كانت النهضة فيها أقلية عددية. (انتهى الاقتباس)
انظر يا صديقي ماذا تفعل:
في حين تبرّر للاسلاميين تحالفهم مع النداء بالقول انهم وجدوا أنفسهم 'في وضع الاختيار الصّعب بين وضع المعارضة المهدّدة بالاقصاء ووضع التحالف/التوافق مع خصم سياسي لم يكنّ لهم الخير طيلة تاريخهم' تتناسى كون اليسار قد تمّت تصفية اثنين من قادته:شكري بلعيد و محمد البراهمي،أثناء حكم الترويكا بقيادة النهضة.أنت تعرف انّ جبهة الانقاذ لم تتكون الا بعد الاغتيال الثاني .و أنت تعرف التساهل الذي قدّمته الترويكا للتنظيمات السلفية بمباركة من قصر قرطاج حيث كان الرئيس المرزوقي.وأنت تعرف ما فعلوه هم وروابط حماية الثورة بالفنانين و المثقفين و دور العبادة و المواطنين و حرياتهم الفردية…ولكنك تتناسى كل هذا و كأن اليساريين لم يوضعوا هم بدورهم أمام خيار صعب بين' وضع المعارضة المهدّدة بالاقصاء ووضع التحالف/التوافق مع خصم سياسي لم يكنَّ لهم الخير طيلة تاريخهم.'
انّك لا ترى هذا .كما انّك لم تفرّق بين أمرين:
- - تحالف اليساريين مع نداء تونس كان تحالفا سياسيا معارضا انتهى في الانتخابات.
- - تحالف الاسلاميين مع نداء تونس هو تحالف سلطة بدأ بعد الانتخابات.
كلّ من الاسلاميين و اليساريين وضعوا في وضع لم يختاروه و لكن تحالف المعارضة أهون من تحالف السلطة لسبب بسيط. تحالف المعارضة كان على أرضية دنيا ذات هدف محدّد ينتهي بانجازها و هو انهاء المرحلة الانتقالية التي تجاوزت مدّتها القانونية (سنة) و حاولت الترويكا فيها فرض دستورها الأوّل (نسخة أفريل) و فسحت فيها المجال للمجموعات السلفية بما لا يمكن لسلطة ديمقراطية أن تفعله اذ وصل الحدّ الى الاستعراضات العسكرية في القيروان و الاعتداءات العنيفة على المواطنين و حتى الى محاولة تعويض الدولة عبر ميليشيات تسيّر الحياة في الفضاء العامّ…و لم تكن النهضة وحدها من يسمح بذلك بل كان طرفا الترويكا الآخرين مشاركين و صامتين اذ لم تصدر عنهما أيّة انتقادات فعلية لشريكهما النهضاوي.
من ناحية ثانية أنت تقول انّ اليسار كان ' مطية لعودة النظام من خلال رفضه قانون العزل السياسي. )رغم أنه عزله بالقانون الانتخابي لسنة 2011 الذي وضعته هيئة "بن عاشور" اليسارية والحداثية في أغلبها والتي كانت النهضة فيها أقلية عددية..( " و لكنّ لا تريد التفريق بين خطوط اليسار أوّلا و لا بين العزل القانوني،الذي تعترف انّه تمّ، و العزل السياسي ) الذي تمّ للحزب الحاكم السابق كحزب بحلّه قانونيّا بدعوى قضائية من محامي اليسار تحديدا) و العزل الشخصي لأشخاص بعينهم.
كما انّك تتناسى انّ النهضة صعّدت لهجتها في البداية ثمّ تراجعت عن ذلك بعد أن بدأ الغزل بين راشد الغنوشي و الباجي قايد السبسي.
انك تتحدّث عن 'اليسار و الحداثيين' في العام و لا تفرّق بين 'اليسارات' من ناحية و تصور مواقفهم وكأنّها كانت متطابقة في حين ان الصراع كان موجودا حتى داخل هيئة بن عاشور الأولى . و في الجهة المقابلة تتعمّد الايحاء بأن مواقف الاسلاميين النهضاويين كانت متماسكة طوال الفترة الانتقالية و هو أمر غير صحيح.
والأهمّ من ذلك كلّه هو التالي:
لقد كانت النهضة و المؤتمر و التكتل يملكون الأغلبية في المجلس التأسيسي و كان اليسار لا يمثل الا 'صفر فاصل' – هل تذكر؟
و قد كانت مهمة العزل موكولة للمجلس التأسيسي و من ثمة للحكومة التيين تهيمن عليهما الترويكا .
فلماذا لم تقم الترويكا بالعزل و هي تحكم في رئاسة الجمهورية والوزارة الأولى و المجلس التأسيسي حتى لو كان اليسار خائنا؟
في الواقع يا صديقي انّك تحمّل اليسار( الذي كان ضعيفا و لا يزال) خوف الترويكا و تردّدها في ما تسمّيه 'العزل السياسي' و تغطّي على النهضة لا غير.فاذا كان 'اليسار' عندما كان‘ أغلبيّا ’في هيئة بن عاشور( وهي هيئة غير منتخبة ووقتية وسلطاتها مجدودة تخضع الى التوافق ( عزل النظام القديم 'انتخابيّا' فلماذا عندما أصبحت الترويكا أغلبية في المجلس التأسيسي )وهو هيئة منتخبة و سلطاتها مطلقة تقريبا و تخضع الى منطق الأغلبية و القلّية) جبنت عن ممارسة العزل السياسي حتى لو افترضنا انّ اليسار خان القضيّة؟
4- 'جرح الديمقراطية العربية الذي لا يندمل' … وتبرئة الاسلاميّين المريبة.
انظر يا صديقي الآن كيف تنهي مقالك.
تقول:
" إن ما يجري الآن من احتراب أهلي غير مسلح في تونس وعسكري في مصر هو نتيجة هذا الاختلاف بين التيارين. فقد لعب اليسار لعبة التحالف مع العسكر في مصر وشاركه القوميون بكل شخصياتهم وزعاماتهم وفي تونس لم يتورط الكثير من القوميين في مثل هذه التحالفات لكنهم لم يغادروا موقع الرفض المطلق للتنسيق مع الإسلاميين واعتبروهم دوما خونة وغير وطنيين. وقد كان الملف السوري عقدة في منشار كل تقارب بين هذه التيارات. والجميع يتبادل الاتهام بالولاء لجهات أجنبية. وقد وصل الأمر ببعض اليسار التونسي والمصري إلى التحالف مع مشيخات الخليج من أجل القضاء على الإسلاميين. والنتيجة الظاهرة هي أن عملية التدرج الهادئة نحو الديمقراطية انقطعت وترسخ استقطاب مؤذٍ لكل التجربة والجميع يخسر على كل الأصعدة والشوارع العربية تراقب المشهد وتزداد خيبتها من الجميع والانفلاتات تتهيأ ليوم لا يمكن لأحد التنبؤ بما وراءه.
وسؤال يلح هل كان يمكن اجتناب كل هذه المجزرة الديمقراطية؟ مناسيب التفاؤل بمصالحة تاريخية على قاعدة الثورة العربية والقطع مع الأنظمة الديكتاتورية ومناويلها الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة تتضاءل وتتلاشى. والقطيعة تتعمق وتفتح على المجهول. وأكثر المتفائلين يكتفون بالدعاء أن لا تنفجر حروب أهلية هنا أو هناك فالخناجر مسلولة والتجريم متبادل. فضلا على أن هذا الاختلاف والتنافر هو الذي فتح باب التعاون والتحالف مع جهات أجنبية تعمل على أن تجد لها مواقع أقدام في الأقطار العربية. فلا فرق من حيث الطبيعة الخيانية للمسار من أن تتحالف مع الإمارات وإيران وفرنسا ضد الإخوان والنهضة أو تتحالف مع قطر وتركيا ضد بشار وأنصاره. فالنتيجة واحدة هي جعل الساحة الوطنية ميدانا لغير أهلها يخوض الأجانب في تفاصيلها ويوجّهون سياساتها. رغم ذلك سيكتب التاريخ أن تجربة الإسلاميين المحدودة في الحكم أثبتت أنهم الأكثر انفتاحا على الحوار وأنهم مستعدون لاقتسام المسافات نحو نقطة وسط. وأن حساباتهم الحزبية قابلة للقسمة مع شركاء الوطن. كما أثبتت التجربة أنهم يخطئون ويصيبون وأنهم ليسوا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. بما يجعل التعامل معهم ممكنا بالتفاوض لا بالإقصاء. وليس بن جعفر إلا أحد الذين جربوا هذا التفاوض المفضي إلى إنهاء الصراعات لكنه في لحظة النقد الذاتي يهرب من حقيقة فائدة التعاون ليواصل التَّمَوْقُعَ خارجه ناكرا ما جناه من غنائمه. فهو مثال على آكلي لحمة الكرومة الإسلامية وذمها. ولعل نقطة الضوء الوحيدة في هذا النفق المظلم هي أن الشارع يتعلم ويقرأ النوايا والأفعال وسيحكم عاجلا أو آجلا. لقد بدأت الثورة تُخَلِّق وعيها في العقول. إن أفق الديمقراطية العربية (وإن مُجِّد في تونس بجائزة دولية) يبدو مغلقا ومحبطا مادام هذا الصراع قائما، ومادامت تنازلات الإسلاميين تقرأ ضعفا منهم. ولقد كتبت دوما أن أفق الإحتراب الأهلي بين هذين التيارين هو الأقرب وما يجري الآن هو تأجيل للحرب لا إلغاؤها." (انتهى الاقتباس من المقال
أنت تصوّر الأمر كما يلي تقريبا :
- أنت ترى ان الاحتراب السياسي و العسكري الآن ،عربيا، هو بسبب اليسار و الاسلاميين. في حين ان الاحتراب الآن يختلف من مكان الى آخر نسبيا.في مصر هو بين العسكر و الاسلاميين و ليس بين اليسار و الاسلاميين. في سوريا الاحتراب بين البعثيين (أساسا يسندهم اسلاميو حزب الله ) و الاسلاميين السّنّة المسنودين من قبل السعودية وقطر و تركيا. في اليمن الاحتراب بين أنصار السعودية من ناحية ( الذين تم ترتيب صعودهم الى السلطة مع الأمريكيين ) و الذين يسندهم الآن التحالف الاسلامي بما فيه السّيسي في مصر و قطر و تركيا وبين علي صالح و الحوثيين .في تونس ' الاحتراب السياسي' الآن بين تحالف النهضة-النداء من ناحية و بعض اليسار و بعض الديمقراطيين الاجتماعيين من ناحية ثانية. الأمر مختلف اذن على ما تقوله من تعميمات. و اليسار لا يتبع نفس المواقف هنا و هنالك و لا حتى في نفس البلد. ولكنك تعوّم المسائل لتقديم الاسلاميين كضحايا أينما كانوا في حين انهم في السلطة في تونس التي تعنينا في المقام الأوّل.
- أنت تعتبر اليسار و القوميين تحالفوا مع الجيش (خاصة في مصر) رغم عدم قيام بعض القوميين بذلك في تونس و لكن مع رفضهم التحالف مع الاسلاميين. و هذا فيه تعميم خاطئ اذ في مصر هنالك يسار ندّد بالانقلاب العسكري و قدّم شهداء أشهرهم الشهيدة سلمى الصبّاغ من الاشتراكيين الثوريين مثلا.
- أنت تعتبر عقدة المنشار في سوريا. و هي ليست كذلك فعلا.انها عقدة من العقد ان شئت .فعقدة المنشار هي الوطن و الديمقراطية و تتمظهر هنا و هنالك حسب الخصوصيّات و موازين القوى. وتقديم سوريا على انها عقدة المنشار ما هو في الحقيقة سوى تقديم احدى تمظهرات العقدة في قطر عربي على العقدة نفسها .
- تقول ان بعض اليساريين تحالف حتى مع بعض مشيخات الخليج ضدّ الاسلاميين. و تنسى ان الاسلاميين تحالفوا دائما معها …و دون عبارة حتّى التي مات سيبويه و في نفسه شيء منها.
- تقرّ بأنّ الجميع قد خسر. و لكنّك تحمّل اسباب الخسارة لليسار وحده اذ لم يرد في نصّك نقد واحد للاسلاميّن .
- تعترف انه من حيث الطبيعة الخيانية لا فرق بين التعامل مع ايران و الامارات و فرنسا و بين التعامل مع قطر و تركيا . وهذا جيّد جدّا و لكنّه يعوّم مسألة خطيرة جدّا بطرحها فقط نظريّا – من حيث الطبيعة الخيانية-. و في هذا اعتراف بخيانة الاسلاميّين –حسب تعبيرك- و لكنك تنسى أطرافا أخرى على علاقة بقطر و تركيا مثلا …و من الترويكا . وتنسى انّه هنالك يسار لا علاقة له بأيّ طرف من الأطراف التي ذكرتها من بعيد أو من قريب. كما توجد –للأمانة- تيارات اسلامية بعيدة أيضا عن كل هؤلاء و لكن ليس الاخوان المسلمون عموما و لا النهضة في تونس تحديدا اذ هؤلاء على علاقة مباشرة مع قطر و تركيا و لهم علاقات ملتبسة مع السعوديّة تتوتر و تنفرج حسب مصلحة المملكة و من يوجه سياساتها داخلها و من خارجها.
- ولكنك تقول في النهاية ان الاسلاميين أكثر انفتاحا و ان تنازلاتهم لا يجب أن تقرأ على انها ضعف…و يمكن التعامل معهم بمنطق الحوار لا الاقصاء بينما الآخرون يريدون ،في أحسن الحالات ' أكل لحمة الاسلاميين' وذمّها. و كأنك يا صديقي تريد أن تقول لنا ان الاسلاميين بطبيعتهم منفتحين و حواريين بقطع النظر عن موازين القوى السياسية المحلية و الدولية. وهذا في الواقع لا علاقة له بالسياسة اصلا و لا بالاسلاميين كذلك. فالانفتاح و الانغلاق مرتبط دائما بموازين القوى حسب البيئة ،خاصّة عند التيارات العقائدية مثل التيارات الاسلامية…و اليسارية و القومية. ولكن عقائدية الاسلاميين –نظريّا- تفوق عقائدية غيرهم بسبب ارتباطها بالمقدّس الديني الأكثر صلابة من 'المقدس الوضعي' القومي أو اليساري… و أكرّر…نظريّا على الأقلّ.
خاتمة الجزء الأوّل :
اسمح لي أن أقول لك ان مقالك موجه منذ بدايته الى آخره لذمّ اليسار و مدح الاسلاميين أو على الأقلّ تبرير سلوكهم لا غير .
لقد عومت معنى اليسار حتى أصبح يضم بن جعفر و الشابي في تونس (في حين انك في مواضع أخرى خارج هذا النصّ تعتبرهما من الوسط الاجتماعي( و السيسي وحلفاءه في مصر ( في حين انك تعرف قطعا ان بعض اليسار المصري ضد الانقلاب العسكري مثلا) بنيّة ربط اليسار هكذا بشكل عمومي اما بالانقلاب أو بالاستئصال أو بالاستبداد الحداثي…
في المقابل تقدم الاسلاميين كضحايا دائما و كأنهم لم يكونوا يوما يهدفون -مثل غيرهم- الى الحكم منفردين في 'حكم الخلافة' الاسلامية …قبل أن تجبرهم موازين القوى أحيانا و مراجعات صادقة و جزئية أحيانا و تكتيكية أحيانا أخرى على تعديل بعض أفكارهم…
في الأخير أودّ لو أسالك سؤالين 'شخصيّين' تقريبا :
- أنت أستاذ علم اجتماع في الجامعة و روائي قدير في نفس الوقت. قل لي بالله عليك. حاول أن تقارن بين ما أنتجه الليبيراليّون و القوميون و اليساريون العرب في العلوم الاجتماعية و الانسانية على علاّته - ولنكتف بتونس لو أردت- و بين ما أنتجه الاسلاميّون في هذه المجالات؟
بالله عليك، ماذا قدّم الاخوان المسلمون –منذ تسعين سنة من تاريخهم- للمكتبة العربية في الفلسفة وعلوم الاجتماع و النفس و الأنتروبولوجيا و الاثنولوجيا و علم الاقتصاد و علم التاريخ و غيرها من العلوم؟
قل لي يا صديقي،حركة النهضة لم تقدّم الى المكتبة التونسية منذ أربعين سنة مثلا سوى بضعة كتب للغنوشي تقريبا و بضعة مقالات للنّجّار و غيرهما … وهي كتب و مقالات ايديولوجية – سياسية بقطع النظر عن قيمتها.
هل بهكذا مكتبة نبني مجتمعا يا صديقي عالم الاجتماع؟
و قل لي بالله عليك، ماذا قدّم الاخوان المسلمون للمسرح و الرّواية و القصّة و الموسيقى و الغناء و الرقص و الرسم و النحت و السّنما ؟
أين مسرحيّو و روائيّو وقصّاصو و موسيقيّو و مطربو و راقصو و رسّامو و نحّاتو و سنمائيّو النهضة في تونس يا صديقي المبدع الرّوائي؟
هل بهكذا فقر ابداعي وفنّي سنبني تونسنا الجميلة؟
لماذا لا ترى هذا و هو أخطر من كلّ ما ناقشناه لأنه يرتبط بالثقافة عموما – دون ذكر العلوم الصحيحة والتجريبية- وليس بجانب بسيط من الثقافة السياسية؟
****
ثم يا صديقي …أنا أعرف موقفك الحقيقي من ممالك الزّفت و القطران في الخليج. ولكن:
لم تصرّ منذ مدة على الكتابة في المنشورات القطرية تحديدا؟
هذا يسيء اليك و الى غيرك.
ألا توجد في تونس مواقع تنشر لك بعد الثورة مثل 'الزرّاع' و غيره ؟
انّك بذلك تساهم في تجميل نظام من أوسخ و أسوأ الأنظمة العربية حتى لو كانت وسائل اعلامه تقبل نصوصك دون تغيير محتواها و دون مقصّ رقابة و حتى لو كانت تدفع مالا يحتاجه الانسان ( ونحن كلنا نحتاج مالا و لا مزايدة هنا و لا ايحاء كما قد يظنّ البعض من مستسهلي الاتهامات).
و لكن اذا كنت أنت الأستاذ الجامعي و الرّوائي لا يعي هذا. فماذا سنقول عن الشباب الذي تخرّبه الجمعيات و الأحزاب و السفارات و المنظمات المخابراتية و الارهابية بالمال؟
ألا تدرك انّك بصدد تجميل نظام سياسي ملكي عشائري له علاقات مريبة مع دوائر دولية و به قواعد عسكرية ساهمت في تدمير دول عربية بكاملها و لا يوجد فيه لا دستور و لا فصل سلط و لا انتخابات و لا أحزاب و لا نقابات و لا جمعيات و لا حرية صحافة ( موجهة الى الدّاخل القطري) و لا أي مقوم من مقومات الدولة الديمقراطية الحديثة ؟
لو كان النشر متعذّرا في تونس لقبلت منك – و من بقية المثقفين و السياسيين و من بينهم قادة 'حزبك' و غيرهم – هذا. ولكن هذا ليس هو الحال.
عذرا يا صديقي - الذي لم يسعفنا الحظ في تطوير علاقتنا الشخصية منذ سنوات و تكاد العلاقة تكون افتراضيّة حتّى الآن رغم تجربة دراسة في نفسل الجيل - و لكنّني أراك تجانب كثيرا صواب عالم الاجتماع و الرّوائي و الدّيمقراطي الاجتماعي على حدّ السّواء بل و حتّى حذر المواطن العادي الفطن.
أرجو أن تقبل منّي بصدر رحب ما كتبته في نقدك و أن يتّسع صدرك للحوار الذي أرجو أن يفيدنا و يفيد البلاد حتّى تتّسع لجميعنا دون استثناء أحد.
طلب أخير ضروري جدّا التذكير به :
لا تعتقدنّ انّ ما كتبته اليك عن النهضة يعني تبرير اقصائها و استئصالها و غيره.انّ هدفي هو نقدها و النضال ضدّها فكريا و سياسيا و هزمها في اطار ديمقراطي عساها تتطوّر من حزب اسلامي كلاسيكي الى حزب ديمقراطي تونسي حديث – وليكن محافظا- حتى يرتقي الصراع معها الى مراتب أعلى و لا يبقى دائرا تقريبا حول اشكاليات هي تقريبا 'ما قبل حداثية' في بعض جوانبها خاصّة .
و لا تعتقدنّ ان دفاعي عن اليسار و عن القوميّين هكذا عموما يعني الدّفاع عنهما كما هما الآن و كما ورثناه عن التاريخ . انّني لا أكفّ عن نقدهما و العمل على تطويرهما حتى يصبحا يسارا و حركة قومية معاصرين و ديمقراطيين هما الآخران .
هذا حتى لا تختلط الأمور و توظف في غير أهدافها –ليس من قبلك- من قبل أصدقائك .
****
الجزء الثاني : حول "سرطان" الاتحاد العام التونسي للشغل .
أنا أتابع من حين الى آخر ما تكتبه حول العمل النقابي و حول اتحاد الشغل بالم كبير و لا أذكر انّني ناقشتك كثيرا أو قليلا في الأمر.
وها انك اليوم تثيرني أكثر من أيّ وقت مضى و أنت تنشر في صفحتك على فايسبوك تدوينة حول ذكرى 26 جانفي 1978 التي سقط فيها شهداء وحول اتحاد الشغل الذي أعتبر نفسي من أبنائه تقول فيها :
" وذات يوم هجمت الشرطة على الرئيس …وتوسلته توسلا ان يبحبحها …..وهو الاب البحبوح الذي وقع في شر فعله …) اسس نقابات الامن ليخرب بها فهجمت عليه وخربت كاريزمته ( فبات يبكي على كتف شادلية … يا شادلية راهم هدوا علي وريحتهم بالصنان … ما علينا شادلية تعيش اياما اضافية …وكله في الربح …
واصبح الكاريزما المثقوبة يتذكر انه 26 جانفي الذي اعاده الى حضن الزعيم وقد اوشك ان يكون حرا وديمقراطيا ..ذات يوم لكن …
يوم مجنون …مات فيها خلق كثير لم تعرف اسماؤهم ..
رغم ذلك …ورغم زمن الكاريزمات الكاذبة فان يوم 26 /78 ما كان ليقع وما كنت الارواح لتذهب سدى لولا النقابة …النقابة التي ارادت ان تكون الدولة …فكسرت وانكسرت … العقل الاحتجاجي )الذليل في باطنه) الذي يسكن النقابة ويوجه فعلها …قام ويقوم وسيقوم دوما بدور تخريب الديمقراطية وليس بنائها …لا لان الدولة عادلة ولا تحتاج محتجين بل لان النقابة لا تحتج لاجل العدالة الاجتماعية بل لاجل مكاسب سياسية فئوية ..حزبية …تحرك الشارع الاجتماعي وتقبض في السياسة منذ ذلك التاريخ … منذ 26،78 قامت النقابة يتحويل نفسها الى شهيدة حية لا يجوز المساس بها او نقدها او النظر الي النقابيين نظرة شزراء فهم تقريبا كائنات مقدسة … منذ 14 /11 تحولت النقابة الى رب تونسي يصلى له (واستثمرت تاريخ حشاد)…وهي تتصرف بربوبية ظهرت امس في سلوك النقابات التي هجمت على الرئيس (وان لم تكن جزءا من النقابة الاله) لكن الربوبية النقابية التي تعلو الدولة تحولت الى عقلية …عامة وضخت في جسدها المسرطن دما جديدا بعد الثورة واعد لها حمادي اجبالي بردعة جيدة لتركب بها ظهورنا … طيب لو كان 12 مليون تونسي يؤمنون بهذا الرب فانا المواطن الوحيد والاخير الذي يكفر به … في هذا البلد سرطان اسمه الاتحاد العام التونسي للشغل."
(انتهت تدوينتك)
ملاحظات مختصرة و ' بسيطة' :
لا تهمّني التفاصيل هنا حول الباجي قايد السبسي و نقابات الأمن…رغم أهمّيتها ولكن:
أن لا يفرّق دكتور في علم الاجتماع و مناضل سياسي ديمقراطي اجتماعي و روائي تونسي :
- بين النقابات الأمنية الحديثة وباقي نقابات العمال و الموظفين التاريخية من ناحية
- بين النقابة كتنظيم و القيادة النقابية التي يمكن بل ويجب نقد بيرقراطيتها
- بين انتفاضة العمال و الفقراء في 26 جانفي 1978 وبين استراتيجيات القيادة النقابية في
1978
- وأن يستنتج أنّ 'في هذا البلد سرطان اسمه الاتحاد العام التونسي للشغل"…
فهذه – وسأكون معك صريحا الى درجة الايلام :
- كارثة علمية يرتكبها استاذ جامعي في علم الاجتماع في مجال سوسيولوجيا الحركة العمّالية و النقابية من ناحية
- و كارثة عمالية –نقابية يرتكبها موظف عمومي من الفئات المتوسطة ولكن من أصول فقيرة
من ناحية ثانية
- و كارثة سياسية يرتكبها مناضل سياسي من الوسط الديمقراطي الاجتماعي من ناحية ثالثة
- و كارثة تاريخية يرتكبها استاذ علم الاجتماع و الديمقراطي الاجتماعي و الرّوائي في حق التاريخ التونسي من ناحية رابعة .
****
كلمة أخيرة :
ان تعاملك مع اليسار و الاتحاد العام التونسي للشغل هكذا بكلّ تعميم و اساءة …لم يجرأ عليه حتى أكبر أعداء اليسار و الاتّحاد من بورقيبة الى بن علي الى النهضة الى النداء الى غيرهم …وان كنت أفهم سبب ذلك اذ للطرفين دور في الاطاحة بالرئيس السابق السيد منصف المرزوقي –الذي أحترم حقك في مناصرته- الا انّني أستغرب أن يصل الأمر الى هذا الحدّ من أستاذ جامعي و مناضل سياسي و روائي تونسي .
انّ ما تكتبه يا صديقي كارثي لأنّه مزاجي لا غير.
عفوا ،
وأعود هنا مرّة أخرى الى سياق ' لحمة الكرومة ' :
" ما هكذا تؤكل الكتف ' يا صديقي.
لم أكن أنوي نشر هذا كما تعرف -اذ أرسلت اليك الجزء الأوّل من ملاحظاتي بشكل شخصي حتّى نتفاعل بعيدا عن فايسبوك و متابعيك و متابعيّ- و لكنّني غيّرت رأيي لسببين :
- احساسي انّك لم تعر اهتماما بملاحظاتي الأولى و نقاشاتنا الثنائية الصريحة الأخرى
- ما لاحظته من احتفاء أصدقائك الكبير- و منهم بعض افراد عائلتي و أقاربي وأصدقائي لو تعرف - بما نشرته بما يعني ان تأثيرك يسيء كثيرا اليك و اليّ و اليهم و الى البلد و الشعب… حسب رأيي الشخصي طبعا .
- ما أحسسته بأن صداقتنا التي هي الى الآن افتراضية أساسا قد تدخل في مرحلة الخطر- الا اذا تواصلت من باب المجاملة الاجتماعية و هو ما لا أرغب فيه صدقا - مثلما تدخل كتاباتك و كتابات من يناصرونك مرحلة الخطر النهائي بفلق أي احتمال تعامل و تعاون يساري- وسطي في البلاد هي بحاجة اليه ماسّة الآن بسبب ميلها كثيرا الى اليمين .
بهذه الصّفة أخشى ان لا معنى للمصارحة الشخصية و الصداقة الشخصية اذا لم يكن لهما انعكاس ايجابي على تفكيرنا –كلينا- و تفكير أصدقائنا المشتركين و على مصير الشعب و البلاد.
****
خاتمة أمرّ من الحنظل :
خسارة يا صديقي ،
أصبحت للتّوّ في شكّ من أمري و أمرك بعد نشرك اليوم لمقالك الجديد المعنون :" حزب النهضة أمام استحقاقات المؤتر العاشر'
أنت تبدو فيه كمن يرغب في دفع النهضة من ' الاسلام السياسي' باتجاه وسطي ديمقراطي اجتماعي بدل الاتجاه الأرجح - نظريا – أي الاتجاه اليميني و لكن المدني و المحافظ ، هذا ان حصل تطوّر أصلا - وهذا من حقّك طبعا.
و يا ليته يحدث فعليّا فأنا أوافقك الأمنية هنا … ولكنني أختلف معك في ما أنهيت به مقالك الجديد حين قلت:
" أرى النهضة في مؤتمرها العاشر وما بعده تحتاج لأولوف بالم (Olof Palm)
لكي تسير في جنازة جورج مارشيي(Georges Marchais)
ويمكن لأولادها أن يقرؤوا دوما أبا حامد الغزالي بصفته رواية تاريخية ."
و هذا يعني أنّك تدعوها للاستفادة …من الوسط الاجتماعي… للسّير… في جنازة اليسار … في الرّواية المستقبليّة.
أنا لم أكن يوما معجبا تحديدا بجورج مارشي الشيوعي الفرنسي في السّابق . و أصبحت منذ مدّة طويلة معجبا بأولوف بالم …ولكنّني في كل الحالات أكره الجنازات …حتى تلك التي تبدأ باستعارة أو تشبيه …و تكاد تكون ’استئصاليّة‘ هي الأخرى… وهي على الأقلّ… جنائزيّة.
أنا أتمنّى أن تصبح النهضة حزبا مدنيا محافظا على الأقلّ. و سأكون أسعد لو اقتربت من الوسط الاجتماعي و لكن… ليس للسير في أية جنازة - فما بالك بجنازة اليسار الذي أرى وجوده ضروريا لأيّة حياة سياسية سليمة في العالم - بل لاقامة حفل تنافس ديمقراطي جماعي نخب الحياة في تونس.
يا لخسارة الوسط الاجتماعي الديمقراطي الذي يقدّم النصائح للاسلاميين التونسيين بدعوتهم الى الاستفادة من الاشتراكية الديمقراطية السويدية … للسير في جنازة اليسار التونسي …المتهم كونه فرنسيّا…و المتّهم كونه استئصاليّا!
و يا لغرابة الوسط الاجتماعي الديقراطي حينما ينصح الاسلاميين بالاستفادة من تجربة سويدية (أوروبية( ثم يتّهم اليسار التونسي بكونه ’يسارا ثقافيا‘ …متأوربا!
كنت أعتقد انّ الوسطي الديمقراطي الاجتماعي المعجب بأولوف بالم - المسالم حتى الموت - سيكون امّا محايدا أو أقرب الى اليسار الديمقراطي… و عموما مسالما . ولكن مع الأسف…هو عندنا…لا يزال يهوى الجنائز السّياسيّة -التي تعني العمل على القضاء على تيّار سياسي مخالف أو الفرح لوفاته - بل و يدعو الى السّير فيها .
مع الأسف أقول لك: سنلتقي في الجحيم جميعا بهكذا تفكير.
****
أرجو أن يتواصل حوارنا راقيا وهادئا كما كان دائما من أجل تونس وشعبها الذين لا أشكّ للحظة واحدة كوننا نحبّهما و نخطأ في حبّهما في نفس الوقت… كلّ من زاويته و بطريقته لا غير …
و لكنّ من الأخطاء ما يقتل يا صديقي فاحذره.
كنت لا أريد نشر هذا منذ يومين كما تعرف.
ونشرته و فسخته اكراما لصداقتنا منذ ساعات كما تعرف.
ولكن عندما قرأت خاتمة مقالك الأخير حول مؤتمر النهضة العاشر استفزّتني عبارة الجنازة و حرّكت في غريزة البقاء السّياسي و تذكّرت أبناءك و أبنائي و أطفال تونس و أهلي وأهلك و شعبنا ومستقبلهم وقلت :
لا بدّ من النّشر.
أعذرني ،انّ ' من يحبّ جيّدا يعاقب جيّدا .'
و قبّل نورك…
و ان كنت ستغضب منّي – وأرجو ألاّ يحصل- فانّني أفضّل ذلك على مجاملة اجتماعية قد يكون من نتائجها الاساءة الى تونس .
' صديقك اللّدود'.
26-01-2016.
المصادر:
(1)
http://mubasher.aljazeera.net/articlesandstudies/2016/01/201612213415818328.htm