لم أجد أفضل من الكلمة المصرية "عشماوي" للتعبير عن صاحب وظيفة دفن الموتى لكي أصف الجلبة التي تحرك الطبقة السياسية المفلسة في تونس بعد انهيار "بريكولاج" جبهة الإنقاذ الأولى. فآخر محاولة سمعتها هذا المساء في حوار نسمه مع الأستاذ نجيب الشابي بعد لقائه برئيس الجمهورية تثبت بما لا يترك مجالا للشك أن النخبة السياسية من جيله عالة على الثورة ولا أمل يمكن أن ينتظر من مبادراتهم التي لا تهدف لإنقاذ تونس بل لاسترداد دورهم في الحكم.
وقد لقيت رئيس الجمهورية بدعوة منه بعد رسالتي المفتوحة إليه بسبب موقفه المشرف ورفضه ما عرض عليه بشرط إدخال تونس في حرب اهلية. واستمعت إليه ساعة ونصف الساعة فشبعت بحديث الذكريات. لم أخرج بما يستحق أن أصرح به لما طلب مني ذلك وفضلت السكوت إذ حتى كلامي معه على دور المعالم الرمزي في تأسيس الدول لم يكن مما يعنيه.
لكني أعجب من تصريحات الأستاذ الشابي الذي يتوهم أن تكرار ما يشبه تجربة جبهة الانقاذ ممكن رغم خروجه المهين منها أول مرة ورغم النكبات التي جلبتها شبيتها على مصر. ولعلل كثيرة ليس هنا محل الكلام عليها سأكتفي بذكر اثنتين منها في شكل سؤالين:
السؤال الأول :
هل من فشل في المحافظة على حزيب يحق له أن يقدم مقترحات لإنقاذ دولة بكلام يمكن تلخيصه بجعل ضمنياته صريحة. فما يفهمه السامع هو أن الأستاذ يأمل في فرصة خامسة بعد الفرص الأربع السابقات التي كانت نزولا متواصلا إلى الهاوية له ولحزبه حتى لم يبق فيه إلا ما هو دون عدد أصابح اليد الواحدة؟
فالفرصتان الأوليان بناهما على وهم الاعتماد على "الاستبلاشيمنت" الذي تركه ابن علي له والطمع في استعمال قاعدة التجمع:
1-فرصة المشاركة في حكومة الغنوشي الأولى.
2-فرصة المشاركة في حكومة الغنوشي الثانية.
والفرصتان الثانيتان بناهما على أمل ترشيح الغرب له لرئاسة تونس إذا قدم نفسه سدا ضد ما يقدمه في حملته الانتخابية بالظلامية الإسلامية كما تبينه دعايته الانتخابية في بداية التجربة الديموقراطية الأولى وخلالها:
3-فرصة الحملة الانتخابية المعادية للإسلاميين.
4-فرصية جبهة الأنقاذ الأولى ومناوشة الترويكا.
وما محاولته الحالية إلا لأنه يتصور أزمة النداء والخوف الذي تبثه الجبهة من الإسلاميين والكلام على اختلال التوازن وعلى القطب الديموقراطي إلا لأنه يتصور أن فرصة خامسة تلوح في الأفق وهي فرصة تجمع الوهمين السابقين لظنه أن :
باب فرصة الترشح لخلافة السبسي داخليا قد فتحت بعد أن بات عديم "الدوفان".
وفرصة ترشيح الغرب له خارجيا قد يكون في المتناول بعد أن قل عدد المنافسين.
السؤال الثاني :
هل يمكن أن يشرح لنا ضابط الأطفاء وجندي النجدة ما يعنيه بالقطب الديموقراطي الذي يستثني منه الإسلاميين وحركة المرزوقي ولم يبق منه ضمنا إلى التكتل لاعادة بناء جبهة انقاذ ثانية بل وذهب حتى لاستثناء الجبهة بدعوى الوسطية ليعود إلى ما جربه بحجة الكفاءات الوطنية التي خدمت الدولة مع ابن علي ؟
والجواب عن السؤالين بين ولا يحتاج لمزيد التحليل. لذلك فإني سأكتفي بملاحظتين:
الأولى :
كل من ذكرهم بالاسم أو بالوصف ويريد أن يبني بهم جبهة الأنقاذ "بيس" لا يمثلون إلا العشماويين الذين يريدون دفن الثورة لظنهم أن الثورة المضادة قد انتصرت وأن فرصتهم تلوح في الأفق لاستئناف الدور الذي كان منوطا بمن يريد أن ينقذ البلاد بهم من نخبة النظام السابق.
والزعم بأن المطلوب حل مشاكل الشباب هو لذر الرماد لأنه حتى بالشروط الثلاثة التي وضعها في الحكومة التي يقترحها يعلم أن ذلك يستوجب مواصلة بيع البلد ورهنه دون حل حقيقي لأن الأوزوف يعني الارتجال.
الثانية :
لعل محاولة تبييض رموز النظام القديم فيها من الخير ومن المكر الإلهي ما ينبغي أن يستفيد منه فكر الثورة والحلف الذي دعوت إليه في تحليلي لنهاية البورقيبية. ذلك أن الثورة ومنزلة تونس في الإقليم ودورها في علاقة الإقليم بما حوله أي في الساحة الدولية لا يمكن أن ينقذها من أفقدها إياها من الجيل السابق على الثورة والذي أغرق الثورة في حربه على الكراسي.
فهذه المنزلة لا يمكن أن يمثلها إلا شباب الثورة بجنسيه المؤمن بتونس من حيث هي خلية من خلايا كيان يتجاوزها هو كيان الأمة التي تسأنف دورها في عالم لم يعد فيه مكان للكيانات القزمية : اي الإسلاميين والقوميين واليساريين والدستوريين من غير البورقيبيين.
فما لم تتحرر النخب من تقديم ترشحها للحكم لغير شعبها فإنها لن تمثل إلا العملاء من المستبدين والفاسدين. فكل من يتصورهم الأستاذ الشابي قادرين على إنقاذ تونس هم في الحقيقة المسهمون في إفقادها سيادتها وهم لا يتفوقون إلا بالقدرة على بيعها ورهنها والتسول باسمها.