انتفاضة التشغيل: في تدارك "هفوة شباب"

Photo

استمعنا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة للثورة إلى شهادات لا تحصى و لا تعد لمواطنين تونسيين على الثورة تعلق عليها بل تقيمها.

جزء لا يستهان به من هذه الشهادات حتى لا نقول أغلبها قائم على خطاب يائس, محبط, خائب....يلتقي بشهادات عديد المواطنين العرب في بلدان الربيع العربي, هي شهادات المصريين خاصة تصلنا عبر قنواتهم المصرية و لكن أيضا القنوات الفضائية العربية و شبكات التواصل الاجتماعي و بعض صحافة مصر الورقية و الالكترونية.

تقييم سلبي للثورات لا حدود لسلبيته: هي ثورات فاشلة لسبب أول متردد في هذه الخطابات يتمثل في أنها ثورات لم تؤت أكلها (بضم الهمزة) لأنها لم تؤت "أكلا" (بفتح الهمزة)......فيغرق الجميع في النواح الذي تعودنا: "ماذا فعلت الثورات لنا ؟؟؟؟" / "هل وفرت لنا الخبز ؟؟؟" / "إحنا عايزين عيش" / "أنا لا تهمني الديمقراطية و لا تهمني الحرية كل ما أريد هو أن أوفر الخبز لأبنائي" / "التشغيل التشغيل التشغيل" ........

بل كثير من الخطابات "العالمة" التي وصلتنا في جانفي-يناير هذا تحاكي خطابات المواطن العادي ذاك و تحاكم الثورات العربية فتتهمها بالإغراق في ما لم تقم من أجله هذه الثورات, الإغراق في مبحث الهوية مثلا أو غيرها مما يبدو اهتمامات نخبوية مغرقة في التجريد بعيدة عن مطلب الرغيف (و ما هي كذلك بالضرورة و لكن هذا مبحث آخر) ....في حين أن الثورات العربية ثورات قامت من أجل تحقيق مطالب اجتماعية و اقتصادية, بل وصل أمر التركيز على المطلب الاجتماعي الاقتصادي بالبعض إلى تسميتها ب"ثورة الجياع" بما في ذلك من تجريح و إهانة......

ربما كان هذا التقييم السلبي المحبط و المحبط (بفتح الباء و جرها) القطرة الحقيقية التي أفاضت كأس صبر الشباب التونسي في شهر الثروة إذ أحيت في ذاكرته طموحه الأول من ثورته و الثمن الذي دفعه من أجله بعد أن كاد ينسى الطموح و الثمن بفعل تخدير إعلام اجتهد ما قدر على الانحراف بهما إلى غير ما أراده شباب الثورة بل و حرفهما تحريفا و شوههما تشويها فلم يبق منهما سوى صورة باهتة توشك على الامحاء و التبخر. أما من لم ينس الثورة فإنه كاد بفعل شر تلك الوسائل يقرف منها قرفا مميتا.

كان لا بد من قادح مادي, حدث محدد في الزمان و المكان في علاقة بمطلب الثورة يطل في فترة تأجج الذاكرة بفعل خطابات الإحباط التي كست أرض تونس سماءها هذه لتنقدح شرارة احتجاجات.

مثل موت الشاب القصريني اليحياوي (أي مفارقة صنعتها الصدفة أن يكون اسمه مشتقا من "الحياة) متأثرا بصعقة كهرباء –و كان قد تسلق عمودا كهربائيا مهددا بالانتحار رحمه الله- هذا الحادث, فكانت "انتفاضة التشغيل" في المناطق نفسها التي اندلعت فيها الثورة التونسية أعني شمال البلاد و وسطها الغربيين و بعض الجنوب أولا ثم "انهمر القطر" فعمت الاحتجاجات البلاد جميعها, فعاد الشباب إلى الشوارع بالشعارات نفسها و المطالب نفسها مشعلا العجلات المطاطية في الطرق راشقا قوات الأمن بالحجارة.....فكدنا نخال أننا استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا و دهشنا لتكرار التاريخ نفسه (في الظاهر) و اختلطت في أذهانها صور 2010- 2011 و 2016............

إلا أن بين السياقين اختلافا جوهريا يحكم على انتفاضة تشغيل 2016 بغير ما تحقق لثورة 14/17 – 2010/2011 مباشرة (أعني هروب بن علي ذات 14 جانفي مشهود):

أما عند اندلاع 14/17-2010/2011 فإن مطلب الشغل و الحرية و الكرامة الوطنية الشعبي و الثوري ارتفق بشرط هو في حقيقته وسيلة تحقيق, أعني "إسقاط النظام": "شغل حرية كرامة وطنية" السبيل إليها "إسقاط النظام" و لذلك "الشعب يريد إسقاط النظام".... و قد نجح الشباب الثائر عندها في إسقاطه فرحل الرئيس و أصبح في عداد المخلوعين وانهار نظامه و كان للشباب ما أراد... فتحققت مبدئيا و نظريا وسيلة تحقيق "الشغل و الحرية و الكرامة الوطنية".......فما بالها تتأخر بعد مضي خمس سنوات من اندلاع الثورة ؟؟؟؟

لم ترتفق "انتفاضة التشغيل" 2016 بطلب إسقاط النظام (انظر بيانات معتصمي القصرين من الشباب المستقل) و قد فهم الشباب أن النظام سقط و بقيت منظومة فساده قائمة إن لم نقل إنها زادت استفحالا لشعورها بقوتها الخارقة إذ ثبتت ثبوتا باهرا رغم سقوط النظام الذي مثل منها الوجه الظاهر فحسب و لا عمودها كما الكل توهم.......ثبات المنظومة هو المأزق الذي يجد الشباب فيه نفسه.

أما إسقاط النظام بالاحتجاج فممكن و قد تم و لكن إسقاط منظومة الفساد بالاحتجاج غير ممكن لأن هذه المنظومة غير مرئية لا وجه لها واحدا بل وجوها متعددة متداخلة مركبة معقدة خافية.... هي غير قابلة للإسقاط بالاحتجاج, إنها لا تسقط إلا بعمل ممتد في الزمن (و "بالدوام إلي ينقب الرخام" كما يقول المثل الشعبي التونسي) و بالتزام شبابي لإسقاطها يحتاج إلى جهد و إرادة هما جوهر ما نقص الشباب الثائر الذي تخلى عن ثورته بمقاطعته السياسة و السياسيين و هجر مكاتب الاقتراع في الانتخابات الأخيرة فأهدى البلاد إلى منظومة الفساد و أعدم إمكانية إصلاح تفتح عاجلا أو آجلا أبواب التشغيل الضامن لحريته و لكرامته الوطنية و تستجلب الخبز أرغفة تكفي الجميع ..........كما أن لكل جيل "هفوة شباب" مثل هذا التخلي المبكر "هفوة شباب" جيل الثورة الذي يمكن أن يكلفه ثورته و يريق المزيد من دمائه الزكية و يهدر السنين الثمينة من عمره....

Une erreur de jeunesse (هفوة شباب)

لا يمكن أن ترغم الاحتجاجات السلطة على إيجاد مواطن شغل, هذا هو المأزق.......هذه المرة الوسيلة ليست من قبيل وسائل تحقيق الهدف المرسوم, و إن فعلت فوفرت السلطة بعض إمكانيات تشغيل سارع الشباب المنتفض باتهامها بالزيف فإن إمكانيات التشغيل هذه عنده "مسكنات للوجع" كما يقول, و هي فعلا كذلك بإجماع كامل. إنها حقيقة لا تخفى على أحد.................

عجبا كيف يكون هناك إجماع على حقيقة و يظل الخلاف قائما رغم ذلك..................

الخلاف قائم لأن هذه الحقيقة منقوصة, مسكوت عن أهم جزء منها هو نصف جبل الجليد المخفي:

الجزء الظاهر هو كون هذه المقترحات "مسكنات وجع"/ الجزء الباطن هو كون "الدواء الشافي النهائي" القضاء على الفساد.

جوهر الخلاف إذن مسكوت عنه لعجز السلطة في أحسن الأحوال عن مقاومته و رفضها مقاومته في أسوئها و لشعور الشباب في قرارة الأنفس أن هذه المقاومة تحتاج إلى زمن يطول في حين أن المطلب عاجل إضافة إلى شعوره بأنه في حقيقة الأمر يتجه إلى خصم-حكم يطلب منه مقاومة الفساد......

لو كان الفساد رجلا لقتله الشباب المنتفض (حتى نستعير الصورة العمرية) كما فعلوا مع المخلوع إذ قتلوه سياسيا في فترة زمنية قياسية, لكن الفساد غير رجل بل شبكة من أعتى الشبكات هي أشبه بالدمل السرطاني الخبيث الذي لا تنفع معه احتجاجات رجال القصرين و غيرهم من المنتفضين خاصة أن التعب و اليأس جعل عزائم الكثير منهم أوهن من بيوت العنكبوت فتورطوا في لعبة موت صادمة هي صورة من صور وعيهم الباطن بحقيقة المأزق: هذا الكثير ينتحر حقيقة و أو رمزا: الإبحار في المتوسط إلى المجهول/ الالتحاق بداعش/ حرق الجسد/ طعن الذات/ الالقاء بالذات من الأعالي..............مأساة تشهد بأن الصبر نفذ و الأمل نفذ و العزيمة نفذت و معها حب الحياة..............جيل أهدانا الحياة ثم نصب لنفسه المشانق...............

السؤال إذن هو: كيف يخرق الشباب دائرة الإحباط المؤدي إلى الانتحار بأصنافه ؟ كيف يتدارك الشباب "هفوة الشباب" التي ارتكبها في حق نفسه ؟

لا يحتاج هذا الشباب –انطلاقا من هذه المقدمات- إلى شغل قدر حاجته إلى الأمل, لا الأمل في التشغيل قدر الأمل في استئناف الثورة السلمية برمتها.....لا تهدوه مواطن شغل فإنه لن تقنعه مواطن شغل بل إنها ستزيد من وجعه لأنها ترسخ عنده يقين أن رسالته لم تصل و لا قناة توصلها و قد سكت الجميع عن جوهر الإشكال.....بل إنها ستهينه فتبدو "ثمنا" بخسا لتضحية ضخمة لم يرد منها موطن شغل فحسب بل حرية و كرامة وطنية أيضا ولا إمكانية لعزل طموح من هذه الثلاثة عن الآخرين و هي المتلازمة المؤلفة بتركيز صنعته عبقرية الشعب في شعار هو شعار الثورة التونسية. ......أخيرا فهمنا أنه طالما كان هناك فاسدون لن يتوفر الخبز للجميع................

لا حل للشباب غير تدارك هفوة جيله, أعني لا حل له غير مغادرة مقاعد المتفرجين المنتظرين و خوض الغمار, غمار السياسة أولا و غمار المقاومة المدنية أيضا:

غمار السياسة أولا :

إن أراد الشباب السلم فلا غنى عن مسار ديمقراطي يؤدي إلى ارتقاء قوى الثورة إلى موطن الحكم فيصلح بإعادة توزيع السلطة و الثروة و الاعتبار كما ذهب إلى ذلك أحد كبار ثائري تونس, فلا سبيل إلى إصلاح فعلي خارج موطن السلطة و موقعها. المسار السلمي يمر ضرورة عبر تنافس أحزاب, فلماذا لا يكتسح الشباب الأحزاب و يحملها صوته و يوظفها لخدمة الثورة عنوة و لا اختيارا ؟

ألا يبدو له إصلاح الأحزاب و توظيفها عوض مقاطعتها و الاكتفاء بمحاكمتها أمرا عاجلا و وسيلة ناجعة لتحقيق الحلم ؟؟ إن تحميلها مسؤولية الفشل لا يعفي الشباب من مسؤولية ما تردى إليه الجميع و هل نحتاج إلى التذكير بالقول الشهير "المتفرج فارس" ؟؟؟.....ألا يرى الشباب قرابة "الاستقلال" و "الاستقالة" في اللفظ و المعنى ؟؟؟؟

القعود عن الفعل لا يعفي من مسؤولية الجريمة بل يضاعفها.إن الفاعل اجتهد فإن أخطأ فله حسنة و أما القاعد عن خوض الغمار فمخطئ في الأحوال كلها..........

غمار المقاومة المدنية:

باستئناف حملات نشأت عفوية مثل "وينو البترول"/ "حل الدوسي" / "مانيش مسامح" / "اقتصد في السيارة الإدارية" /…..و شن حملات متواصلة تمثل ضغطا حقيقيا يستنزف قوى الفساد و يتعهد ذاكرة الثورة دون هوادة…..

أما المقاومة المدنية فتكون شكل الضغط السلمي و أما المقاومة الحزبية فتكون شكل الارتقاء إلى السلطة من أجل تقرير المصير, و لا من أجل تحقيق طموح شخصي انتهازي و غنم امتيازات كما رسخ الإعلام ذلك في أذهان الشباب عملا منه على إقرافهم من السياسة و السياسيين و قد فهم أن انخراط الشباب في السياسة هو الخطر الحقيقي المحدق بمنظومة الفساد ولية نعمة إعلام العار المرتزق, فسلك الإحراج سبيلا إلى تنفير نفوس نظيفة غضة مثالية هي نفوس الثوار ضرورة و قد استقبلوا الرصاص بشجاعة منقطعة النظير فكيف يطمعون بعد ذلك بغنم مادي مهما عظم ؟؟؟…..

إن كان لا بد من حلول للشباب "عاجلة" فلن تتمثل في مواطن شغل معدودة توزع على بعضهم دون البعض الآخر, بل بإشارات رمزية من السلطة تقدر عليها إن توفرت فيها إرادة الإصلاح أو يرغمها الشباب عليها سلميا إن لم ترد الإصلاح منها: سحب مشروع قانون المصالحة / دعم هيئة الحقيقة و الكرامة و مساعدتها على التسريع في أداء وظيفتها /……قرارات قادرة على تعديل بوصلة المسار و إعادته إلى خط الثورة بحمل الشباب على الاقتناع بأن ثورتهم ردت إليهم و معها البلاد كاملة.

إن "استملاك" الشباب للبلاد هو القادر وحده على خلق الصبر الكافي و الرغبة الكافية للبناء بل قادر على تفجير عيون من العطاء لا يعادل بترول العالم قيمتها, يغمر بها الشباب تونس فيورق شجر الربيع العربي فيها من جديد……يحيا الشباب و المجد للشهداء شرط أن يخوض الجميع الغمار………….أقدموا و لا تحجموا أنتم قوة جبارة لا نعرف لها حدودا….فهلا وعيتم حجمكم ؟؟؟؟؟؟؟؟…..

أما إن واصل الشباب "انتظار" تحقيق مطالب لا يقدر على تحقيقها غيره أو لا يريد تحقيقها غيره فلا يعجبن أحد من إطلالة زبانية المخلوع علينا كل مساء من شاشات "عائلة" مرشحة إلى أن تتحول إلى "عائلات" تذيب الأمل و تضرم النار في الصدور و الضمائر…….حتى إذا طلع النهار تحولت النار التي في الصدور إلى نار تضرم في الأجساد و تنبئ بنار تضرم في البلاد آتية لا ريب فيها إن لم…………

نسأل الله حسن العاقبة هو حسبنا و نعم الوكيل.

Commentaires - تعليقات
لمياء
02/07/2016 07:21
انتخابات 2014 مزورة باصوات الموتى