احمد المكسيكي …

Photo

كانت نواياه تسبقه دوما بعشر دقائق... وكان يحمل حقيبة مليئة بالتصحيحات والجمل المعدلة لما قيل بعد مرور النوايا على غربال الفعل. هو أحمد الذي عجزت نساء الأرض أن تصنع منه نسخة أخرى أو شبيها.وعجز رجال كثير أن يسيروا في ظله الوارف. فسحبوا قصرهم من طوله ليتجلى كمدخنة تخرج دخانا أبيض وتفوح بالفيتورة الجافة.

وكان إلى طوله الفاره رشيقا جدا كغصن البان في الأغاني القديمة. لكن الريح لا تحركه بقدر ما تحركه النية في خدمة الآخرين لمكانته المشرئبة نحو مجد يستعيد به حكم أهله للقيروان. كان طويلا بقدر لا يحتمل. كان طويلا كمسلسل مكسيكي. نعرف حلقته الأولى ثم نسافر إلى اندونيسيا للتجارة والتنزه ونعود لنرى الحلقة المائة قبل النهاية ونفهم كل شيء.كان أجمل من مهند في اللباس الأسود وان تخفف من الشعر الكثيف. لذلك قال الذين سجنوا معه في البرج انه كان يشرب الحليب طريا فيصل بطنه رائبا وله رائحة اختمار. كان طويلا وواضحا وصريحا كالمسلسل المكسيكي ذي المضامين المكشوفة في المسلسل السابق.

ذلك الطول العجيب وتلك الرشاقة الباهرة جعلت رأيه طويلا كحنش مائي ويخرج بدقة عالية في جمل قصار. فلا يضطر للتوضيح الا بعد نزول نواياه إلى الطابق السفلي. حين يكون الآخرون يرتبون مواقفهم للرد على ما انكشف من النوايا. لقد كان سريعا. كان طويلا وسريعا ورشيقا كقطار فرنسي ويسير على سكة من سبقوه ويبدع.

ولدته أمه ذات يوم مشمس في باحة بيت بسيط بين منزلين بسيطين وكانت الشمس مشرقة والعصافير تزقزق في سماء خضراء. لكن يمزق قلبها علم الدولة الحامية.

و أحمد الذي طال قده واستقام، نشأ يحب فرنسا وحفظ لغتها الحلوة ورغب في العبور من باريس إلى القيروان. لكن نواياه فضحت خطواته فعرج على جهات أخرى.. كلما سبقته نيته إلى الجهة الجديدة يسبق هو نية الآخرين معلنا انتصارا ماحقا على قصر نظر الآخرين ذوي الآذان الصغيرة.

فلما اشتد أوار المناورات وكثر الراغبون في حكم القيروان جن جنونه. نظر فرأى المرازيق ورأى الجنادبة ورأى الفراشيش ورأى الهمامة وقفت لقمة من بيض السمك في بلعومه الطويل. وقال عربت فخربت. من أين جاؤوا؟ بات يقرأ مخطوط شارل منشكور عن خضوع القيروان لأهل الشابة. ولم يعلم انه حقق وترجم ونشر في زمن كان فيه الحديث عن القديم يسمح برزق وافر لمن يخاف من الحديث عن اللحظة الراهنة.

فرح قلبه بالتذكر كيف سيطر أهله على القيروان وخربوا مجد الجلاص أكلة الهندي والتلغودة. لقد حطم أهله نظرية عقبة في أمن الفسطاط الهارب من البحر والوندال. فاتوها من البحر والسردين فانتصروا وشمتوا في بقايا العرب الذين زعموا تعريب البلاد. ولكن أحمد فشل في فهم رغبة دريد وشارن في حكم السهل وهم الذين تدربوا فقط على صعود الجبال. وهاجت العربان عليه فلم يفهم إلى القيروان مدخلا واحدا فسبقته نواياه إلى حليف أكبر.

وجد على غير توقع طريقا واضحا للقيروان ولكن كيف يزيح العربان من سبيله. رغب في قطع الطريق إلى المجد السريع وقسمة المستقبل مع الماضي وترك بعض الجذوع اليابسة كعلامات على الطريق. لكن العربان علوا عليه باللفظ القبيح.لم يعرهم سمعه واستمر في القتال، باسما إنهم لا يعرفون المصلحة.وألح على العلم الغزير الذي تكبد في الجامعات حتى قام له الغلمان الصغار "فمرمدوه" فوضع قبلات قصيرة في المسلسل لتحلية المجالس وتجلى في الطريق معلقا كسلعة راقية.ولم يفقد الأمل في تزويج البطل في آخر القصة.كان يسمع بإذنيه الكبريتين العروس تتغنج له "هيت لك، هيت لك يا ملك".ولم يكن يسمع الشبيبة آكلة الشعير تعفط خلفه وتقهقه.

استنصح فنصح ولم ير الآخرين يرون نواياه فقد سبقته أكثر من عشر دقائق فتعرت. مكر وسخر وابتسم وأقام الاحتفال الصاخب في ملعب لكرة التنس وجمع جمهورا كثيرا بمال وجده فجأة في حقيبة صغيرة تحت الكرسي. وكانت أسهم الدنيا مصيبات وتغتال الخاسرين إذا تغابوا.

انتخب الناس غيره تحت شمس جلية لا تكذب. احترقوا بالنار من أجل الآخرين وخلفوه. فاتته الرئاسة …فاكتفي بموقع البربوز…يقيم الدنيا ويقعدها على حرف نصب تائه في جملة فعلية لا مناص من تصريف فعلها في المضارع المرفوع بضمة ظاهرة.

يحرض غلمانه من حوله.يثيرون ضجة عارمة يتوقف الحديث للترضيات تخرج جمل لطيفة من هنا وهناك بعضها يحرضه الصبر وأخرى تأتي في سياق ذكر موتانا بخير …وبعضها يشبه مضغ علكة مرة لهضم عشاء ثقيل…يقول الجميع «الصبر وبَرَّهْ» ويفرغ أحمد الطويل زوادة التشويش الخائب.ليملاها من خارج المجلس في الصباح التالي ويسترزق بفش عجلات الآخرين.

ينظر إلى الرئيس المنتخب…يمضغه ويبصقه لكنه يجده في فمه من جديد مرا كعرجون من الشيص .. واضحا كنخلة متفردة. واثقا كزيتونة في الشعال. ربعة يمر ولا يثير. نحيفا كفلاح جنوبي. صلبا كخبزة من شعير. صموتا لا يرد على صيصان الدجاج. و لكنه يتكلم أسرع من قطار ياباني . بلفظ حاد كفعل أمر.

من أين جاء ؟ هذا الذي لا صفة له ويشبه الجميع كأنه كلهم في شخصه ولفظه وخطوه الأخرق في البروتوكول.انه هنا والآن وليس مسلسلا مكسيكيا..ويحب القيروان.يهرب إليها من مدن الجواري والتكايا. ولا سبيل إلى قلعه إلا بقلع النخيل الباسق في تربة الجريد.

يرتجل أحمد جملا زعافا ويرى سمه في وجوه الآخرين فيطرب ..لكنهم لا يلدغونه فيرتد عليه الكلام.

الطلقات لا تعود إلى بندقيتها إلا في الصور المتحركة وأحمد المكسيكي حي يرزق ويسير في الأسواق ولا يجد سبيلا للصعود. عداد الزمن يسير.وأحمد يتوقف في الحلقات الأخيرة متمنيا تخفيف النهايات بقبلة. وتزويج العروس واقتطاع الحلوى. لكن قطار الزمن أطول من أحمد المكسيكي وتشده غايات بعيدة. منها توفير الشعير لقوم يحبون إلها يقيم بينهم ولا ينظر إليهم من علو شاهق فيراهم قصارا فيدوس. لقد غادروا إلى حقولهم حيث يمكن زرع الشعير وقد أغلقوا التلفزة قبل الذهاب. لقد ملوا المسلسل المكسيكي. سينكبون الآن على تنقية بصلهم من العشب الطبيعي ولكنهم سيرون أحمد من بعيد كسلعة لا يشترونها. ويقول المتعلمون منهم "بلاكة للخيبة ".

مع الشاي الليلي الثقيل…سيذكر الذي حضروا زمن الاكاذيب الطويلة من الرجل الطويل لأحفادهم كيف كمن الكذبة لهم ذات يوم في الضحك الإشهاري ولم تنطل.

هذا زمن الواقعية المرة حيث أولاد الشعب يرفعون سيقان أولاد العائلات …

Commentaires - تعليقات
سعيد الجندوبي
02/04/2016 23:58
رائعة سي نور الدين، رجاءا النسج على منوال ما كتبته هنا فلنا من الأبطال الأشاوس من يملأون مجلّدا بل مجلدات كتلك التي خلدت سير الأوّلين ..
Chiheb Boughedir
02/05/2016 04:26
La façon, subtile et sarcastique, dont tu as croqué le portrait de ce turlupin inconsistant, me rappelle la verve polémique de l'écrivain satirique, il faudrait, comme le souligne si bien l'ami Saïd, que tu étendes ton talent en la matière à d'autres personnages loufoques de la scène politique tunisienne, et Dieu seul sait s'ils ne sont pas nombreux!