منذ أيّام ناقشت مذكرة بحث لنيل شهادة الماجستار في علم الاجتماع تحت عنوان "سوسيولوجيا تشكيلات إنتاج المعرفة: حالة ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس". كان الهدف من البحث استكشاف واقع صناعة المعرفة في تونس - فاعلين ومؤسّسات ومواقع وروابط وتفاعلات- من خلال دراسة ميدانية لشبكة ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس خلال الفترة الممتدة بين العام 2003 والعام 2014، باستعمال تقليدين فكريين وفّرا أدوات فعالة ومفاهيم مهمة للتفكير بمثل هذه الظواهر السوسيولوجية. سأسميهما السوسيولوجيا النقدية وسوسيولوجيا التشكيلات ذات المنحى الأنثروبولوجي. لم يكن غرضي المزاوجة بين مدرستين بقدر ما هو البحث عن تقاطعات بين مقاربات تحليلية لتفكيك عناصر القوّة وأسس بناء شرعية الهيمنة داخل شبكة ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس. إذ المفكران اللّذان ارتبطا بهما منهج التحليل، برونو لاتورBruno Latour وپيار بورديوPierre Bourdieu ، معروف كل منهما على أنه سوسيولوجي وأنثروبولوجي في آن واحد.
إذن أنجزت البحث الميداني بالاعتماد على الوُجهة التي تقترحها سوسيولوجيا برينو لاتور، ذات الصّبغة التّشكيكية في مسلّمات السوسيولوجيا الكلاسيكية والسوسيولوجيا النّقدية، ومن أهمّها القطيعة الجذريّة بين المعرفة العلميّة والمعرفة الشائعة ، وهي مسلّمة ينجرّ عنها عدم التّعامل بجدّيّة مع قدرة النّاس العاديين على وصف وضعهم الخاصّ، ويمكن أن نستشفّ منها كذلك عدم تناسق النّموذج البنيويّ البردويوزي (نسبة لبورديو) الّذي يدّعي أنّه نقديّ والحال أنّه يكرّس الطّابع المتسلّط لواقع الفاعلين وينتقد أوهامهم ومعتقداتهم دون أن ينقد في الآن نفسه أسسه المتسلّطة الخاصّة به.
ليس المُترجم في تونس واحدا، إذ ينحصر فعله، أحيانا، في النشر محليا ويغيب عالميا، أو العكس. والحال أنّ مخرجات صناعة الترجمة محليا ضامرة كميا ونوعيا، إذ تقتصر على مؤسّستين رسميتين "بيت الحكمة" و"المركز الوطني للترجمة".
شبكة ترجمة علوم الإنسان والمُجتمع في تونس تعكس واقع صناعة المعرفة، فاعلين ومؤسّسات وسياسات، كما تكشف محدودية قدرة هذه العلوم على إنتاج معرفة مرتبطة بقضايا المجتمع ولو بشكل غير مباشر. وقد تكون المشكلة مرتبطة أساسا بغياب "بيئة محفّزة" على إنتاج معرفة تهتمّ بقضايا التغيير والتحوّلات. إذ أنّ صناعة المعرفة في الدول الشمولية تخضع للرقابة وتنضبط للسقف الذي تسمح به السلطة السياسية السائدة.
لا تقتصر العوائق، التي عاينها البحث، على قيود المال والسياسة ولكن تلعب الايدولوجيا دورا في تحديد وجهة الممارسة العلمية وتتدخّل "المجموعات الفكرية" المهيمنة على مؤسّسات صناعة المعرفة في رسم السياسات وتحديد سقف التفكير.
غير أنّ تشاؤم العقل هذا، أبقى تفاؤل الإرادة، ذلك أن تحوّلات كثيرة حصلت داخل فضاءات الجامعة التونسية خلال الخمسة سنوات الأخيرة. ومن تجلّيات هذه التحوّلات طبيعة تفاعل لجنة مناقشة البحث مع الموضوع وهي تفاعلات جسّمت هيمنة قيم المعرفة التي هي نقيض الايدولوجيا، وانتصار سلطة العلم التي هي نقيض سلطة السياسية.
تتكوّن لجنة البحث من ثلاثة أساتذة يُدرّسون علم الاجتماع بالجامعة التونسية، رئيس اللجنة حافظ عبد الرحيم والمقرّر ماهر تريمش والمؤطّر منير السعيداني.
لم ينحصر دور اللجنة على التقييم أو التصحيح بل تجاوز ذلك لتقديم الإضافات وتصويب الإخلالات، نبّهني الأستاذ ماهر تريمش إلى خلل منهجي حيث كان يُفترض بي أن أعتمد شهادات إثنوغرافية وتفاصيل للسير الذاتية والمهنية للمُترجمين، كما اعتبر أنّ المزاوجة بين بورديو ولاتور غير موفّقة فهما حسب رأيه بحران لا يلتقيان، وهذا الرأي طبعا يُعتدّ به فالأستاذ ماهر تريمش من المُختصّين القلائل في الوطن العربي في سوسيولوجيا بورديو، وعقّب منير السعيداني، أستاذ علم اجتماع الثقافي، مؤكّدا أنّهما يلتقيان في نقطة بعينها وهي بناء الشرعية داخل شبكة صناعة الترجمة.
أمّا رئيس اللجنة فقد اكتفى ببعض الإشارات المنهجية مؤكّدا على ضرورة الالتزام بالمنهج الإثنوغرافي حتى يكون البحث في سياق سوجيولوجيا بيرنو لاتور ومُقاربة الشبكة-الفاعلة.
كانت بالنسبة لي لحظة تفكير واستفكار، ومثّلت تدخّلات أعضاء اللجنة قيمة مضافة للبحث. كما كشفت النقاشات عن وجود مقاربات مختلفة في مجال التغيير الاجتماعي وتحديداً علاقة هذا التغيير بالثورة المعرفية، وحول الإنتاج المعرفي في المجتمعات العربية وتأثيره على التغيير الاجتماعي.
كما بدا لي من خلال تفاعلات بعض الحاضرين، أنّ الجامعة التونسية بأمسّ الحاجة إلى مراجعة فلسفتها التعليمية ومعاييرها وممارساتها. فالجامعة هي مؤسّسة بحثية تدريسية وعليها ألاّ تكون منفصلة عن مجتمعها وألاّ تنأى بنفسها عن النقاش العام في أسئلة التحوّلات وقضايا الانضمام إلى العالم المُعولم و"اقتصاد المعرفة".