لا يخفى أن أثر إيكو يبقى عميقا في الكتابة المعاصرة، وهو الذي أسس مدرسته الخاصة، وها هو ينتقل من روائي وفيلسوف ليغدو أسطورة روائية في الرواية العالمية المعاصرة.
رحل الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 – 2016) من دون أن يكون له حظ في جائزة نوبل، لكن إبداعه يظل شاهقا في عالم الفكر والأدب، فقد كانت له مساهمات كبيرة في حقل السيميائيات، فضلا عن جرأته الروائية في مقاربة موضوعات وقضايا مثيرة للاهتمام، وتظل بمثابة أرض ملغومة لمن يقترب منها، سواء أكانت دينية أو سياسية، من تلك التي تحفل بالتناقضات والاختلافات إزاءها.
اعترف إيكو الذي كان قد اختار لأحد كتبه عنوان “اعترافات روائيّ ناشئ”، بأنّه في السادسة عشرة من عمره بدأ كتابة قصائد شعرية كما هو شأن كلّ المراهقين، ولا يتذكّر إن كانت الحاجة إلى الشعر هي وراء ميلاد حبّه الأوّل العذريّ أم العكس؟ ويذكر المفارقة التي كتبها على لسان شخصية تخييليّة من شخصياته، وهي أنّ هناك نوعين من الشعراء “الجيّدون الذين يحرقون قصائدهم في سنّ الثامنة عشرة، والسيّئون الذين يواصلون كتابة الشعر إلى آخر يوم في حياتهم”.
اعترف صاحب “اسم الوردة” كذلك بأنّه كان لحدود 1978 سعيدا لكونه فيلسوفا وسيميائيّا، وأنّه قال في إحدى المرّات، بقليل من الوقاحة الأفلاطونيّة -بحسب وصفه- إنّه يعتبر الشعراء والفنّانين عامّة أسرى أكاذيبهم الخاصّة، فهم يحاكون المحاكاة، والحال أنّه باعتباره فيلسوفا يمتلك مفاتيح العالم الأفلاطونيّ الحقيقيّ للأفكار.
وفي كتابه “أن نقول الشيء نفسه تقريبا” قارب إيكو أسئلة كثيرة منها: هل الترجمة تعني حقا التبرع بدم الإبداع للآخرين أم أنها إبداع مواز؟ إلى أيّ حدّ يكون الوفاء مطلوبا بالنسبة للمترجم؟ هل يعكر الوفاء للنص صفو الترجمة؟ هل كل ترجمة خيانة بالضرورة؟ هل حقا أجمل الترجمات أكثرها خيانة للنص الأصلي؟
وبسؤال: ما معنى أن نترجم؟ استهل الإيطالي أمبرتو إيكو كتابه الذي خصّصه للبحث في فقه الترجمة والإشكاليات التي تعترض المترجم، والعوائق التي تحول دون ترجمة دقيقة شافية، بالموازاة مع إبحاره في فقه اللغة، وهو الخبير بدقائقها، ورموزها، ولا سيّما أنّه اشتغل في أكثر من حقل معرفي، وبحث ونبش وكانت له صولات وجولات، ويعدّ علما من أعلام السيميائيات في العالم، فضلا عن تركيزه على الفلسفة وكونه روائيا رائدا مميزا.
أجاب إيكو عن سؤاله بافتراض أنّ الترجمة هي قول الشيء نفسه بلغة أخرى، لكنه أشار إلى مواجهة المترجم لعدة مشاكل تكمن في تحديد معنى عبارة “قول الشيء نفسه”، وبرّر ذلك أننا لا نعرف ذلك الشيء معرفة جيدة، إذ نلجأ إلى كل تلك العمليات التي نسميها شرحا أو تفسيرا أو إعادة صياغة من دون الحديث عن الاستبدالات المزعومة بوساطة المرادفات. ثمّ يذكر أن المقدم على الترجمة يكون أمام نص يريد ترجمته ولا يعرف ذاك الشيء معرفة دقيقة، وهناك شكّ دائم حتى في أبسط الكلمات.
ذكر إيكو أنه أثناء تجربته كمؤلف مترجَم كان يتخبط باستمرار بين الحاجة إلى أن تكون الترجمة وفية للنص الذي كتبه، والاكتشاف المثير كيف أن نصه يمكن أن يتحوّل حينما يقال بلغة أخرى. ورغم وجود مصاعب جمة، كان يرى كيف أن النص يبرز طاقات تأويلية كان يجهلها، وكيف أن الترجمة تقدر أحيانا على تحسينه.
لا يخفى أن أثر إيكو يبقى عميقا في الكتابة المعاصرة، وهو الذي أسس مدرسته الخاصة، وها هو ينتقل من روائي وفيلسوف ليغدو أسطورة روائية في الرواية العالمية المعاصرة.