لم يكن اكثر المتفائلين قادرا على توقع سرعة التحولات العالمية بعد هزيمة الشعبوية الفاشية في الانتخابات الامريكية و استعادة الامبراطورية لعقلها البراغماتي مع صعود بايدن الديمقراطيين و توجهه نحو استعادة اسلوب تفكيك الاحتقان الذي سببه المعتوه ترامب .
لم يبطئ جو بايدن في اعادة اسلوب القوة الناعمة و من الواضح ان اجراءاته في اليمن و تسهيل الحل الاممي في ليبيا و خطابه حول دعم التحولات الديمقراطية و حقوق الانسان و اعادة وضع الاندفاع الاسرائيلي تحت رقابة " الامبريالية المحجمة " يندرج في سياق اغلاق القوس المغامر لترامب الذي تناسى مياها كثيرة كثيرة جرت في انهار العالم شرقا و جنوبا بداية من توازن الرعب الذي فرضته قوى الاستعصاء و المقاومة وصولا الى موجة الانعتاق الديمقراطي مع ربيع الشعوب العربية .
يدرك بايدن الديمقراطيين بوضوح ان عصر امريكا التي تفعل ما تريد قد انتهى منذ اكثر من عقد و ان لعبة تقاسم المصالح و التسويات الكبيرة مع القوى الصاعدة في المنطقة و تشبيك العلاقات مع المعطى السياسي و الشعبي الجديد في العالم العربي هو الاسلوب الاسلم بعد تهاوي قدرة الاستبداد التقليدي و افول النخب القديمة التي لم تعد قادرة على الضبط و التسوية مع قوى العالم الجديد .
ضمن هذا الاطار وحده يمكن لتونس الجدية ان تفكر في تقرير مصير انتقالها السياسي نحو الديمقراطية و السيادة الوطنية و الاقتصادي نحو التنمية المنتجة و العادلة و المتوازنة .
تونس الجدية هي في مكان اخر بعيدا عن واجهة مسرح الضجيج و عربدة الضوضاء التي يمارسها الفشلوت و القوى الوظيفية و الفاشية و نكرات الفوضوية الخاوية و الطوباويات المزعومة التي تتقاطع مع المشاريع الفاشلة للمستعمر القديم الذي يلوك نفس اساليب الاجهاض و التعطيل و التآمر و التي تتوهم الاستقواء بنظم الريع النفطي المتهاوي لمشاريع الثورة المضادة و التطبيع الذليل .
تبدو القوى الاساسية اليوم التي تمسك بزمام تونس متعددة و رغم انها هي القوى الوحيدة المؤهلة للاستمرار في قيادة المرحلة و انجاز التسويات الكبرى لتونس الجدية التي تستطيع افتكاك مكانها في الترتيب الجديد للإقليم و التي تستطيع جلب الدعم لانتقالها نحو الحرية و الكرامة و القوة...رغم ذلك فهي تعاني جملة من العوائق التي يجب ان تتجاوزها لتقود المرحلة ضمن المشروع الوطني المرحلي للبناء .
القوة الاولى هي " الدولة الوطنية " او ما يسمى بالعميقة و اجهزتها و ادارتها التي بلغت اليوم من العمر عتيا منذ الاستقلال. و رغم ما ابدته هذه الدولة الوطنية من مرونة في القبول بالتحول التاريخي الحتمي نحو الديمقراطية التي رفضتها في السبعينات و الثمانينات و اجهضتها في التسعينات و انحنت امامها في شتاء 2011 و رغم ما ابدته من قوة في مواجهة كل المؤامرات التي استهدفتها و استهدفت الديمقراطية التي قبلتها (الارهاب و الفوضوية و الانقلابية و الفاشية) الا انها مع ذلك مطالبة اليوم بحسم امرها مع الفساد الموروث و مناويل الاقتصاد الريعي و المافيوزي الذي تحكم فيها و اخترق مفاصلها لعقود طويلة .و لن تتمكن من ذلك الا عبر القبول نهائيا بالثورة و الديمقراطية داخلها ( الجديد ) و قطع كل اشكال رعايتها للأذرع التي صنعتها و انتجتها على امتداد عمرها حين كانت دولة زبائنية و نظاما تابعا و استبداديا اكثر مما كونها دولة وطنية .
القوة الثانية و التاريخية المرتبطة بهذه الدولة الوطنية وهي ما يطلق عليهم بالدساترة او التجمعيين اي هذه النخبة الواسعة من الماسكين بمراكز النفوذ المادية و الرمزية على امتداد عقود الاستقلال و ما انتجته من قوى وظيفية تمسك بكل مفاصل " السيستام " و اذرعه الادارية و الاقتصادية و الاعلامية و الاكاديمية و المنظمات و الجمعيات و رجال المال و الاعلام . هذه القوة تعيش الان تصدعا رهيبا و تشتتا كبيرا يمتد من قوى قبلت بالتحول نحو الديمقراطية و لكنها تناور بأساليب تقليدية في ابتزاز الجديد الذي هزمته في 2014 دون ان تقدر على اقصائه او الحكم بدونه. وصولا الى قوى فاشية و فوضوية و استئصالية تضع باستمرار نفسها على الذمة لتمنح بطريقة او بأخرى هذه القوة الثانية الفرصة للاستمرار في المناورة و معاداة الديمقراطية الناجزة و الذهاب الى الاصلاح الجذري و التسوية الكاملة مع الثورة .
القوة الثالثة هي الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يظل باستمرار منظمة وطنية براغماتية و واقعية تميل في المنعرجات الكبيرة الى حماية الدولة و الانتصار للديمقراطية كما يؤكد ذلك الافق الطبيعي لقيادتها بروحها العاشورية العميقة و لكن هذه المنظمة محتاجة اليوم الى التخلص من التوجهات الفوضوية و اليسراوية الوظيفية ذات الاوهام الايديولوجية الآفلة و التي استثمرت في الارتباك و الفراغ لتدخل للمرة الاولى منذ الاستقلال الى مواقع متقدمة و بأعداد غير معتادة في منظمة ظلت باستمرار اداة تعديل براغماتي لا مكان فيها للخيارات الشعبوية و الفوضوية الا بقدر ما يقتضيه التمثيل الوظيفي للتنفيس و الرقابة .
القوة الرابعة هي النهضة و من يدور حولها من قوى جديدة تعتبر نظريا و عمليا و في التوزيع الهوياتي للقوى الممثل الرئيسي للجديد و الشرط العملي لنجاح الانتقال باعتبار ان القوى الاخرى ظلت باستمرار جزء من السيستام السياسي للدولة / النظام. التسلطي مما يجعل عنوان الانتقال نحو الديمقراطية كما تحدده مقتضيات التاريخ هو موقع النهضة / الاسلاميون / الثوريون في المشهد و داخل الدولة . و تعيش هذه القوة ثغرات قيادية و فراغ مشاريعي كبير رغم الدور الكبير الذي يقوم به رئيسها راشد الغنوشي و الذي لم يعد كافيا لملء فراغ تنتظر اللحظة ملاه حتى تستقيم العملية التسووية الكبيرة القادمة لا محالة .
تونس الجدية امام فرصة تاريخية تحتاج فيها قواها الاربعة الى بلورة مشاريعها : الدولة. الوطنية ( تجديد نخبها ديمقراطيا ) / حزب دولة الاستقلال ( الدساترة و دقرطة يسارهم الوظيفي ) / الاتحاد ( بناء قوة التمثيل الاجتماعي الوطني العام ) / النهضة ( حزب الجديد و روافده الثورية) .
هذا هو مجال تونس القادمة ..دون ذلك مجرد مكملات هامشية للمشهد في مسار تاريخي لن ينتظر احدا .