نقطة واحدة نحب نحكي فيها فيما يخصّ كلمة رئيس الجمهوريّة أمام سفراء بلدان الاتحاد الأوروبي هو ورود عبارة ديمقراطيّة في كلمته. ولا أتذكّر استعمال عبارة الديمقراطيّة في كلمات الرئيس وفي صفحة رئاسة الجمهوريّة.
في كلمته أمام السفراء تحدّث عن الديمقراطيّة وأشار إلى أنّ الأزمة لا تقف عند "غياب الاستقرار الحكومي" وإنّما هي أعمق بسبب "غياب الاستقرار السياسي".
وهذا التشخيص في مجمله صحيح. ولكن هل من المناسب أن يتحدّث به رئيس الجمهوريّة أمام أهمّ شريك اقتصادي لتونس؟ وفي قالب شكوى يعلم تفاصيلَها سفراءُ البلاد الأوروبيّة وخاصّة فرنسا بواسطة حضورهم الديبلوماسي في تونس وعملائهم من الأحزاب الوظيفيّة.
رئيس الجمهوريّة حتّى عندما تحرّك "ديبلوماسيّا" ولأول مرّة تقريبا وتحت ضغط الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أو بسبب "ردّة الفعل" على ما يفعله الآخرون (رئيس مجلس النواب، رئيس الحكومة)، لم يحترم واجب التحفّظ المناط برئاسة الجمهوريّة، فما قاله أمام سفراء اوروبا كان عليه قوله للتوانسة وفي الإعلام الوطني. وقد مضى على مقابلته الصحفيّة اليتيمة في القناة الوطنيّة الأولى عام ونصف.
ما كان له أن يقول ما قال أمام سفراء الاتحاد الأوروبيّ عشيّة التخفيض في ترقيم تونس السيادي من (B3) إلى (-B3). علما وأنّ عامل "الاستقرار السياسي" أهمّ ما يُعتمد في درجة الترقيم السيادي.
ومثل هذا الحديث عن الشأن الداخلي وبهذه الطريقة لا ينمّ عن الافتقاد للنضج السياسي المطلوب فحسب، إنّه علامة على غياب النضج العاطفي الضروري في توازن المواقف ومنها الموقف السياسي، بالوقوع تحت طائلة ردة الفعل والتجاذب السياسي المملّ.
رئيس الجمهوريّة يناهض الديمقراطيّة فلماذا (وقد قرّر الحديث عن الشأن الداخلي للأجانب) لا يصرّح بوجهة نظره ويشرحها للأوروبيين في الديمقراطيّة من الأسفل (هي ليست الديمقراطيّة التشاركيّة وليست الديمقراطيّة المباشرة)، وقد بخل بشرحها للتوانسة واكتفى بعموميّات لا دلالة تبوح بها سوى شكلانيّتها الهزيلة.
هذا التخلويض في أعلى مؤسسات الدولة، لا يُخفي عنّا ما هو أهمّ وهو أنّ "حقيقة تونس صارت خارج تونس" وهذا ليس قدرا وإنّما هو نتيجة فعل أبنائها عبر عقود طويلة (من ملابسات الكومسيون المالي)، ويتواصل بعد الثورة. حتّى صار الاشتكاء للأجنبي (القوادة الرسمية) سلوكا مستساغا ومجال منافسة بين ممثلي الدولة في في أعلى مؤسساتها.
"حقيقة تونس صارت خارج تونس" يعني أنّ شروط قيامنا واستمرار تجربتنا (سواء كانت ديمقراطيّة أو دكتاتوريّة منقلبة عليها) ليست بأيدينا ولو في مستوياتها الدنيا.
وكما كنّا في في ليبيا وصراع المحاور الإقليمي والدولي بين الانحياز إلى الحل السياسي انسجاما مع مرجعيّة المسار الديمقراطي أو الانحياز إلى حفتر انسجاما مع حنيننا إلى الدكتاتوريّة وبيادة العسكر، فإنّنا حُوصِرنا مرّة ثانية بين الانحياز إلى فرنسا المنكسرة ورغبتها في عودة الدكتاتوريّة، فهي الأفضل عندها لرعاية مصالحها وبين الانحيازإلى الديمقراطية التي تمثّل شرطا في خدمة مصالح دوليّة تريد أن تجعل منّا ومن ليبيا والمغرب العربي قاعدة اقتصاديّة متقدّمة باتجاه أفريقيا وسدّا سياسيا أوّل في مواجهة الزحف الأصفر. وبها تخوض معارك اقتصاديّة كبرى تدفع بها لكي تدشّن "مخطط مارشال" جديدا في المجال العربي الذي عرف زلزالا عنيفا ضارعت قوته التدميريّة آثار الحرب العالميّة على أوروبا واليابان.
عنوان السيادة كثيرا ما يستعمل للاستهلاك والمزايدة، وأمقت من يتحدّث عنه وأقدامه في "زبالة التبعيّة". ومع ذلك، ورغم حالة الضعف الماثلة، فإنّ السيادة شروط يمكن مراكمتها مهما ضاقت مربّعات المناورة.
الوشاية السياسيّة لا يمكن أن تكون وجهة نظر ، ولا يمكن أن تكون من الفعل الديبلوماسي ولا ضمن السياسة الخارجيّة. وهذه الملاحظة موجّهة إلى أعلى مؤسسات الدولة بدون استثناء.