وأكثر الكتاب والمحللين المتفائلين وأعلاهم صوتاً لم يتوقع أن يتحول المستفيدون من الديمقراطية إلى أعداء لها يخربونها دون اقتراح أفق خروج نحو المزيد من الديمقراطية. لقد محصت الثورة الكثيرين واختبرت الحرية مدعيها، وهذه مكاسب على الطريق. لكن الحرية والديمقراطية تخترقان الآن، وهنا من الداخل.
فأكثر المستفيدين منهما هم أعداء الحرية والديمقراطية، وهذا أكبر تهديد يصيب التجربة في مقتل، ويجعل السؤال عن مصير التجربة يفرض نفسه على طاولة النقاش السياسي والاجتماعي.
معركتان تنتج أحداهما الأخرى، معارك النخب حول شكل السلطة قبل محتواها تعمق المعركة الاجتماعية التي قد تعصف بالجميع. هنا يتضح التهديد الجدي لماضي التجربة ومستقبلها خاصة.
هناك علامات ثابتة وتترسخ لدى النخب السياسية والفكرية في تونس، معركة الاستئصال السياسي التي تقسم المجتمع إلى حداثيين ضد رجعيين أو علمانيين ضد إسلاميين، وهي معركة تخفي كوامن أخرى تبدو غريبة لمن لا يعرف ثوابت التفكير النخبوي.
فتحت القشرة الحداثية نجد معارك الحضر ضد الريف أو الأصليين ضد الوافدين، وهذا التقسيم الثقافي/الاجتماعي يمكن العودة به إلى ثقافة حضرية قديمة استعملت البدو واستغلتهم واحتقرتهم، ولم تفلح الدولة المدنية بمدرستها الحديثة في تذويب التقسيم، وإنما أخفته في أغلفة أخرى، وقد عبر عن نفسه في لحظات حرجة من الثورة والبناء الديمقراطي.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر عندما وصل في مرحلة الترويكا (2012-2013) رئيس حكومة ورئيس دولة من الأرياف الداخلية كان من دوافع إسقاطهما أنهما من غير أولاد البلاد. فلما عادت السلطة إلى الحضر (2014-2019) وكان ذلك بغير أسلوب ديمقراطي قالت نخبة الحضر عاد الدر إلى معدنه.
هذا خلاف فات زمنه في الظاهر لكنه لا يزال كامناً ومؤثراً بقوة في خلفية أفعال سياسية كثيرة، بعضها يجري اللحظة تحت أنظار العالم، ويهدد بالفوضى ويملك وسائلها لأن الثروة لا تزال بين يديه. والمثير للسخرية أن خطاب الحداثة والتقدمية ومعاداة الرجعية يلتصق بهذا التقسيم الاجتماعي المتخلف ويبرر له.
يقين ظاهر للعيان حتى اللحظة، الثورة لم تفلح بعد في تغيير موقع الثروة لذلك فالقوى الاجتماعية التي أسندت نظام بن علي ومن كان قبله، بما فيها قوى الاحتلال الفرنسي، لا تزال قوية وفاعلة وتمنع كل تقدم، وتستعمل خطاب الاستئصال بلسان اليسار الوظيفي ويده.
وإنه لتحالف غريب لا نجد له مثيلاً، فالنخبة الأرستقراطية الحضرية مالكة الثروة والسلطة تتحالف ضد كل تغيير في العمق مع نخب اليسار الحداثي لتعيق فعل الثورة، وتحرض على الفوضى لإسقاط كل احتمالات التغيير الديمقراطي.
هذا تهديد حقيقي وثابت للثورة والدولة المنتظرة من الثورة. الثورة لم تنتج ثقافتها الثورية. التغيير الحقيقي والعميق لم يبدأ بعد، والردة أقرب إلى التحقق تحت تأثير الشروط الاقتصادية الحالية. الثورة لا تبني دولتها.
العراك حول شكل السلطة المنتظرة
إنه عراك وليس نقاشاً بناء، وهو عملية تمويه أو قنابل دخانية للهروب من الاستحقاقات الشعبية. النظام الرئاسي في تونس جُرب ففشل، بل جُرب فخرب البلد. والنظام البرلماني معطل بعد ولم ير الناس نتائجه ليحكموا عليه. لذلك فإن إبقاء النقاش في هذه النقطة (حداثة ضد رجعة أو تقدمية ضد رجعية أو يسار ضد إسلاميين) هي قنابل دخان تعيق النقاش الحقيقي حول استحقاقات الثورة التي ينتظرها الناس.
إن أحد مداخل تطوير النظام السياسي وسبل إدارة البلد بشكل ديمقراطي هو ما أحدثه الباب السابع من الدستور التونسي لتفكيك سلطة المركز القيادي (الحكم)، وتوزيع سلطة الإدارة بين أيدي الفاعلين على الأرض بانتخاب المسؤولين في المستويات المحلية.
وقد عطل الرئيس الباجي تنزيل هذا الباب عن دراية بنتائجه على المركزية واحتكار السلطة. وكنا نظن أن الرئيس الحالي سيسعى فيه، لكنه أعاد النقاش إلى المركزية، أي مركزية دور الرئيس في النظام بما يسقط سلطات البرلمان والحكومة، ويعيد إنتاج بيئة دكتاتورية كأن لم تحدث ثورة ولم يُصغ دستور حديث.
تتراكب/ تتداخل/ تتكامل هنا ثلاثة عناصر أو مستويات هي المحافظة الفكرية (حضر ضد ريف)، والمحافظة الاجتماعية (أغنياء ضد فقراء)، والمحافظة السياسية (مركزية ضد ديمقراطية مباشرة)، فتشتغل ضد الثورة، فتتجلى القوى المقاومة للتغيير، وهي قوى فاعلة إلى درجة تعطيل كل جهد تغييري وتستعمل كل الوسائل المتاحة بالديمقراطية نفسها مثل الفاشية التي تعطل عمل البرلمان.
ميزان القوى بين الثورة وأعدائها مختل في العمق، إذ تمتلك هذه القوى سلاح الإعلام الفعال، وتوظف إلى جانب الإعلام النقابة وهي إحدى أدواتها منذ زمن بعيد، وقد تجلى دورها أخيراً وسقط عنها غلاف ادعته طويلاً وهو الدفاع عن الطبقة العاملة. بينما تفتقد الثورة إلى سلاح الإعلام وقد باءت كل محاولات إنشاء إعلام الثورة بالفشل، وتواجه النقابة في الشارع والفاشية في البرلمان وفي الشارع.
في الشارع تحرض القوى المعادية للثورة الاحتجاج الاجتماعي لتسقط به الحكومة رغم أنها لا تعد له حلولاً بديلة، ولكن خطة التخريب تعمل بنجاعة في انتظار إرساء دكتاتورية تقمع الشارع.
فالهدف الأساسي ليس تلبية مطالب الشارع بل قمع قوى التغيير ولو باستعمال مطالب الثورة نفسها. هنا تسفر الفوضى عن وجهها، وتتعرض التجربة الديمقراطية إلى الاختبار الأخير وهي تقف اللحظة على شفير هاوية معدة بعناية لدفنها.
قوى الثورة مخترقة في العمق
كثيرون يعرفون أنفسهم ضمن قوى الثورة لكن فعلهم انتهى حتى الآن في خدمة الثورة المضادة ويقدم خدمات جليلة لها. هذه إحدى بوابات الخراب. هناك لغو ثوري كثير ولا نرى فعلاً ثورياً.
كثير من الثوريين استئصاليون في العمق، ويرفضون أي تنسيق مع حزب إسلامي ويصنفونه في الثورة المضادة ولا يقبلون منه أي موقف مهما انتمى إلى الثورة.
وبعيداً عن الحزب الإسلامي لا يتفق هؤلاء حول برنامج ثوري، فمرض الزعامة والنرجسية يدمر كل جهدهم، فكلهم زعيم يبحث عن يد عاملة لمركزة شخصه وبناء مجده.
والحزب الإسلامي لا يخفض لهم جناحه، ويسعى في حلول فردية لإنقاذ نفسه من بين كل هذه القوى (عقدة الاستئصال أنتجت عنده ميلاً إلى مهادنة أعدائه، لذلك يحارب وحده بوسائله وكثير منها غير ثوري) .
ثوريون يخدمون أعداءهم دون وعي باللحظة، هذا هو الاختراق المدمر الذي نشاهد فصوله في كل حديث وكل موقف. هل نتجه إلى اضطراب اجتماعي جديد؟
نعم كل المؤشرات تتجمع لتفيد الدخول في مرحلة أخرى شديدة الحرج، فأدوات الحكم معطلة بفعل ما قام به الرئيس من رفض قسم الوزراء بعد التعديل الأخير.
والحكومة تفتقد إلى الموارد التي تستجيب بها للاحتجاج الاجتماعي، وقد ضاعف وباء الكورونا عجزها. وقد انكسرت مستويات الثقة بين الشارع والحكومة، وبين الشارع والبرلمان وبين جزء من الشارع والرئيس.
وقوى التغيير مثخنة بخلافاتها ونرجسية رموزها الفاشلة في التجميع والبناء، والثورة المضادة تنتظر متربصة ولا تدفع شيئاً من لحمها الحي، فالثوريون كفوها مؤونة الثمن إذ يدفعونه من لحم الثورة.
لا توجد جهة راغبة فعلاً في التغيير يمكنها التقاط اللحظة وقيادة الشارع نحو استعادة ألق الثورة وزخمها. هل نصفر لنهاية الثورة؟ هذا أقرب إلى اليقين وإن كان يقيناً محبطاً.
لن يعود نظام بن علي شكلاً، ولكن واقعياً نحن في نظام بن علي بكثير من الحرية غير المنتجة للتغيير. وقد كتبنا كثيراً عن الاستثمار في الحرية، ولكن أغفلنا أن أعداء الحرية يستفيدون منها أكثر من عشاقها. هل نتهم جهة ما؟ يمكننا تعليق كل المصائب على ظهر عدو خارجي والعودة إلى قواعدنا سالمين، هذه أسهل خاتمة للتحليل ولكن نكتب جملة أخيرة حزينة.
عندما يفقد أنصار الثورة والتغيير الديمقراطي منجز الحرية سيطيب لهم النواح الثوري، حينها سيأكل الصادقون أصابعهم ندماً على ما فرطوا فيه، ولن ينفعهم صدقهم العاجز أيام الفعل.