1-
يفترض في اليسار أن يتخذ مواقف تكتيكية و استراتيجية من باقي القوى السياسية انطلاقا من قراءته هو للمرحلة التي تمرّ بها الحركة الثورية لشعبه.وفي تونس يجمع اليساريون ،مهما اختلفوا حول ما حصل في تونس-ثورة سياسية ،مسار ثوري،انتفاضة وحتى 'انقلاب ما بعد حديث'- أن مسار 17 ديسمبر 14 جانفي كان ديمقراطيا و ليس اشتراكيا.أي أن تقييمهم للقوى السياسية الأخرى يفترض أن يرتبط باشكاليات الثورة الديمقراطية عموما.
2-
أهم اشكاليات الثورة الديمقراطية الكلاسيكية في البلدان المستعمرة و التابعة هي مسائل الحرية السياسية و السيادة الوطنية و مسألة الأرض و مسألة الشغل ومسالة المرأة ،الخ. وتتميز القوى اليسارية نظريا بكونها تدفع لما هو اقصى في كل هذه النواحي لتحقيق ما يسمى 'الثورة الوطنية الديمقراطية' -كلاسيكيا- أو تحقيق أكثر ما يمكن من الاصلاحات في اتجاهها حسب ما يسمح به ميزان القوى.
3-
يقسم اليساريون القوى السياسية في المستعمرات واشباه المستعمرات و البلدان التابعة الى قوى وطنية و أخرى تابعة بالأساس. و يفترض أنهم يدركون داخل ذلك التقسيم أنه يمكن أن تكون هنالك قوى وطنية محافظة أو اصلاحية أو ثورية.وفي المقابل يدركون أن قوى تابعة يمكن أن تكون محافظة أو اصلاحية (لكن داخل التبعية) ويعرفون انها -على العكس- لا يمكن أبدا أن تكون ثورية.
4-
يفترض في اليسار اذن أن يعي أن القوى الوطنية (التي تكون اما محافظة أو اصلاحية أو ثورية) يمكنها أن تختلف -في الدرجة - حول كل محاور الثورة الديمقراطية المذكورة أعلاه (مسألة الوطن،الأرض،الحرية،الخ.) وأنه يمكن للقوى غير اليسارية الثورية أن تكون ثورية هنا واصلاحية هناك ومحافظة هنالك . لقد كان جمال عبد الناصر ، مثلا ،محافظا في مسألة الحرية السياسية (متسلّطا) وبعض الجوانب الاجتماعية والثقافية (المرأة-الدين) واصلاحيا في مسألة الأرض (الاصلاح الزراعي) ووطنيا/قوميا ثوريا في مسالة استقلال الوطن والوحدة العربية ،الخ.
5-
هذا يعني أن اليسار يجب أن يعي الفرق بين الوطنية الجذرية و الوطنية الجزئية، بين المحافظة الجذرية و المحافظة الجزئية،بين الاصلاحية الجزئية والاصلاحية الجذرية ،الخ. ويربط بين كل هذه النقاط المختلفة داخل برامج القوى السياسية حتى لا يحكم عليها انطلاقا من نقطة واحدة جزئية سواء كانت ايجابية أم سلبية تجنبا لانحرافين سياسيين محتملين :نقص تقدير أو المبالغة في تقدير الامكانيات الثورية الوطنية-الديمقراطية للآخرين. اذا حكمت على عبد الناصر فقط من خلال موقفه العسكري المعادي للحرية السياسية فأنت ستظلمه بسبب مواقفه الوطنية والزراعية مثلا. و العكس بالعكس. في الأول 'ستذمّه' أكثر من اللازم وفي الثاني 'ستمدحه' أكثر من اللازم،الخ. وفي الحالتين بسبب اعتماد تقييم جزئي (ايجابي أو سلبي). بل انّه في المسألة الواحدة لا بدّ من التدقيق :في مسألة المرأة مثلا، شجع عبدالناصر خروج المرأة للتعليم و العمل و الفعل السياسي وطور حقوقها الصحية ولكنه لم يمس قانون الأحوال الشخصية وأخذ موقفا وسطا من الحجاب ،الخ.فالتقييم هنا يجب بالتالي أن يكون دقيقا ومجملا في نفس الوقت بحيث نتمكن من الموازنة بين الحكم السياسي العام على قوة سياسية معينة والأحكام السياسية الجزئية عليها. وهذا ما يجب فعله مع قيس سعيّد الآن في تونس.
6-
يعتبر قيس سعيّد أن 14 جانفي كانت لحظة انقلاب على الثورة التونسية ويرى كونه من الضروري العودة الى المسار الثوري وفق رؤيته هو من خلال استكمال تجربة مجالس حماية الثورة الأولى حتى تكون الثورة شعبية فعلا.وموقفه هذا يرتبط بتنديده بالأحزاب الحاكمة و المعارضة التي ساهمت في تحريف مسار الثورة حسب رأيه.ولكن قيس سعيد لم يعلن يوما ما نيته منع الأحزاب من النشاط بحيث يصبح قذافيا -كما ينعته البعض- ولم يساو يوما بين الامكانيات السياسية الايجابية للأحزاب بدليل تعامله مع بعضها ورفضه التعامل مع أخرى. ومن هنا يجب أن نبدأ في تقييم حدود النزعة الشعبوية الموصوم بها و الا فاننا سنخطئ الطريق.
7-
مواقف قيس سعيّد من مسألة السيادة الوطنية (و من القضايا القومية ) و من مسألة الحق في الشغل و مسألة الحرية السياسية ومسألة المكاسب و الحقوق والحريات الاجتماعية (التعليم،الصحة والنقل...) ومسألة مقاومة الفساد ،الخ. هي في عمومها مواقف ايجابية .وحتى مواقفه من المرأة فهي ليست محافظة كلية بل محافظة جزئية فقط.؛ هو مع المساواة في الشغل و الأجر و التعليم والصحة،،،ولكنه فقط ضد المساواة في الميراث.
8-
عند هذا الحدّ لا بدّ من الانتباه و العودة الى قراءة المرحلة التي يمرّ بها 'المسار الثوري' لقراءة القوى السياسية المهيمنة على المشهد ودراسة خطورتها على تونس وشعبها والنظر ان كان قيس سعيد وأنصاره يعتبرون من ضمن الأخطار الأساسية أم هم من ضمن القوى الباحثة عن بدائل لتلك الأخطار -ولو المختلفة عن اليسار- ودراسة كيفية التعامل - ولكن النقدي- معهم. وهنا لا بدّ من العودة الى التذكير بمواقف قيس سعيد الايجابية الكبرى من أهمّ قضايا الثورة الديقراطية:الوطن،الشغل،الحرية ،الأرض، مقاومة الفساد ،التوازن الجهوي،الخ. و لكن لا بدّ من التدقيق في حدود مواقفه ومضامينها ونقدها أيضا.
9-
انّ قيس سعيّد وأنصاره يجمعون في 'برنامجهم' بين تصورات يسارية ما ( قريبة من الديمقراطية المباشرة ) وأخرى ليبيرالية -اجتماعية ( لايطرحون الاشتراكية ولكن يدافعون عن المكاسب الاجتماعية) وأخرى عروبية( الموقف من التطبيع ) وأخرى اسلامية (الموقف المحافظ من الميراث )،وهم بذلك أقرب الى تيار وطني اصلاحي جديد يمكن وصفه بالشعبوي -الجزئي- ولكنه لا يمثل لا شعبوية - يمينية خطيرة (هو ليس مارين لوبان تونس أو ترامب تونس،الخ) و لا شعبوية-يسارية (هو ليس ميلونشون أو بابلو اغليزياس تونس ) بل هو أقرب الى ما يمكن اعتباره 'شعبوية -وسطية' هي اقرب الى شكل خاص من الديمقراطية الاجتماعية التونسية التي ترث فشل توحيد اليسار و الوسط التونسيين منذ 2011 الى اليوم و تحاول تعويضهما من 'خارج السيستام' و من 'خارج الايديولوجيات' . وان القاعدة الاجتماعية الأولى لقيس سعيد وتياره تتكون اساسا من شرائح شبابية مهمشة ومتعلمة من الطبقات الوسطى لتلتحق بها انتخابيا عناصر شعبية ووسطى ذات نفس وطني و اجتماعي ديمقراطي.
10-
ليس لليسار -الذي يجب عليه هو نفسه أن يجدّد نفسه لأنّه مثلا كان تسلّطيا ومناصرا لنظرية الحزب الواحد،الخ - و لا للقوميين و البعثيين و الاشتراكيين والديمقراطيين -الاجتماعيين - الذين عليهم تجديد أنفسهم أيضا- الحق في أن يتعاملوا مع 'ظاهرة' قيس سعيد تعاملا سلبيا مطلقا بحيث يساوون بينه وبين صقور تيارات الثورة المضادة (من الدستوريين ) و تيارات الثورة المحافظة (من الاسلاميين) خاصة .
بل ان من مصلحة اليسار التعامل النقدي معه بل و حتى محاولة دفع عملية التمايز داخل الدستوريين والاسلاميين حتى تظهر من بينهم تيارات تقترب من الوسط الوطني الاجتماعي الديمقراطي ولكن دون اعتبار ذلك مهمة اساسية مقارنة بتجديد وتوحيد نفسه وتوحيد كل الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين الحاليين في جبهة عريضة لإيقاف عملية انهيار المجتمع و الدولة.
ولكن عدم التعامل السلبي-المطلق مع قيس سعيد لا يعني التعامل الايجابي-المطلق معه بحجة ،مثلا، أنه يقاوم الاسلام السياسي والتجمعيين و الفاسدين. ان المسألة هي مسألة مبدئية وسياسية في نفس الوقت و تعبر عن ذلك مواقف اليساريين المساندة لقيس سعيد حتى عندما سانده الاسلاميو ن في الدور الثاني للانتخابات مثلا و حتى عندما يقبل بالتعامل مع حكومة بها اسلاميون عملا بمقتضى الدستور ،الخ.
ان المساندة النقدية لقيس سعيّد يجب أن تنبع من قراءة ما يمثله سياسيا وما يتطلبه الوضع السياسي و ما يقدر على انجازه في ظروف موازين القوى الداخلية و الدولية وليس بهدف اسقاط رغبة يسارية عليه أو تعويضا عن الضعف أو نكاية في خصوم سياسيين. و ان المساندة تتم في ما يتفق معه فيه و النقد في ما يختلف معه فيه دون تسويته بالخصوم السياسيين المعلنين . وان هذه المساندة النقدية يمكن أن تنتهي بعد مدّة لتصبح معارضة ويمكن ،على العكس، أن يخف الجانب النقدي فيها ويزداد عنصر المساندة حسب تطور مواقف قيس سعيد وحسب تطور الوضع في البلاد .
خاتمة:
لعله من المهم الانتهاء بملاحظتين ؛الأولى لليسار التونسي عموما و الثانية لحزب العمّال تحديدا:
أ-
لا بدّ من التفريق بين الوطنية الثورية و الوطنية الاصلاحية و الوطنية المحافظة .ولا بدّ من التفريق بين الاجتماعية الثورية والاجتماعية الاصلاحية والاجتماعية المحافظة.و لابد من التفريق بين الديمقراطية الثورية و الديمقراطية الاصلاحية و الديمقراطية المحافظة .ان هذا التفريق مهم جدا للتمييز بين الوطنيين الاجتماعيين الديمقراطيين (على اختلافهم ) و أنصار التبعية و الليبيرالية الجديدة و الاستبداد وهم الخطر الأساسي الآن.
و هنا يجب الانتباه الى أن قيس سعيد وأنصاره قد يتردّدون بين مواقف جذرية واصلاحية ومحافظة في نفس الوقت حسب الميدان (سياسة،ثقافة) وحسب موازين القوى و حسب الفترة الزمنية ،الخ. وفي نفس الوقت يمكن أن توجد -وهي توجد- قوى تابعة وليبيرالية جديدة مثلا، ولكنها تبدو أكثر ديمقراطية ليبيرالية سياسيا و أكثر حداثة اجتماعيا من قوى وطنية اجتماعية ديمقراطية. وهنا يجب التفريق بين الموقف السياسي المبدئي من الأصدقاء و الخصوم وبين احتمالات التقاطع الظرفي التي لا تبرر تحالفا مرحليا مع الخصوم مهما حصل و الا فان اليسار سيصبح عجلة خامسة لقوى تحمل مشروعا مضادا له وسيخسر أصدقاءه بسبب اختلاط السبل عليه امّا نتيجة مواقف جزئية أو نتيجة ردود أفعال سياسوية لا غير. والحياة السياسية التونسية كانت وستكون حبلى بمثل هذه الاحتمالات .
ب-
الى الرفاق في حزب العمال الذين يعتبر موقفهم الأكثر معاداة لقيس سعيد هذا التذكير. أنتم تعتبرون أنفسكم ماركسيين-لينينيين-ستالينيين أكثر من غيركم . أنا لست يساريّا أرثوذكسيّا ولكنني سأقوم بتذكيركم بفقرة طويلة لستالين حتى ' تقيسوا' عليها قليلا في خصوص التعامل مع قيس سعيد وأنصاره وأرجو ألا تحوّلوا النقاش من الروح التكتيكية للفقرة الى شكلها و اطارها التاريخي للتهرب من الأساسي.
جاء في كتاب اسس اللينينية لستالين ما يلي :
" يقول لينين :
'ان مطالب الديمقراطية المختلفة، بما فيها حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها، ليست شيئاً مطلقاً، بل هي جزء من مجموع الحركة الديمقراطية (اليوم: الحركة الاشتراكية) العالمية. ومن الممكن، في بعض الحالات المعينة الملموسة، أن يناقض الجزء الكل، وفي هذه الحال يجب نبذ الجزء'. (لينين، المؤلفات الكاملة: "خلاصة المناقشة حول حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها" المجلد التاسع عشر، صفحة 257 – 258، الطبعة الروسية).
(...) .
إن الصفة الثورية للحركات الوطنية، في ظروف الاضطهاد الاستعماري- الامبريالي، لا تستلزم بالضرورة وجود عناصر بروليتارية في الحركة، لا تستلزم أن يكون للحركة برنامج ثوري أو جمهوري، لا تستلزم أن يكون لها أساس ديمقراطي. فنضال الأمير الأفغاني في سبيل استقلال أفغانستان هو، من الناحية الموضوعية نضال ثوري، رغم الطابع الملكي لمفاهيم الأمير وأنصاره، لأن هذا النضال يضعف الاستعمار ويفكك أركانه ويقوضها. في حين أن نضال الديمقراطيين "الأشاوس" و "الاشتراكيين" و "الثوريين" والجمهوريين أمثال كيرنسكي وتسيريتللي، رينوديل وشيدمان، تشيرونوف ودان، هندرسون وكلاينس أثناء الحرب الاستعمارية، كان نضالاً رجعياً لأن نتيجته كانت تزين وجه الاستعمار، وتثبيت أقدامه وتحقيق انتصاره. إن نضال التجار والمثقفين البرجوازيين المصريين، في سبيل استقلال مصر، هو لهذه الأسباب نفسها، نضال ثوري، من الناحية الموضوعية، رغم الأصل البرجوازي لزعماء الحركة الوطنية المصرية، رغم صفتهم البرجوازية، ورغم كونهم ضد الاشتراكية. في حين أن نضال حكومة "العمال" الانكليزية لأجل أبقاء مصر في حالة التبعية، هو للأسباب نفسها رجعي رغم الأصل البروليتاري والصفة البروليتارية لأعضاء هذه الحكومة، ورغم كونهم "مؤيدين" للاشتراكية. (...)
إن لينين على حق في قوله أن الحركة الوطنية في البلدان المضطهدة، لا يجب تقديرها من ناحية الديمقراطية الشكلية، بل من ناحية نتائجها الفعلية في الميزان العام للنضال ضد الاستعمار/الامبريالية ، أي لا يجب تقديرها "بصورة منعزلة بل في المقياس العالمي". (لينين، المرجع السابق نفسه، صفحة 257). "
(انتهى الاقتباس من ج. ستالين،أسس اللينينية، فصل 'المسألة الوطنية' )
لاحظوا جيّدا عبارات : مجموع أهداف الحركة الديمقراطية ، تجنب التعامل الشكلي ، الثورية مسالة موضوعية ،الثورية قد لا تنفي وجود برنامج ملكي اصلا في بعض المراحل بشرط الوطنية (و الاختلاف الآن حول نوع الجمهورية الرئاسية والبرلمانية قد يصبح ترفا أحيانا مقارنة ببرامج الخصوم ) ، نقد الديمقراطية الاستعمارية و التابعة للاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين في مقابل مدح ملك أفغانستان،الخ.!
ولكن لا تنسوا: انها مساندة نقدية و لا يتعلق الأمر بأي شكل من الأشكال بإعطاء صكّ على بياض لأحد. لا يتعلق الأمر بالموافقة على النواقص والأخطاء أو بمباركة التصورات الشعبوية و/أو المحافظة الجزئية ...بل بتقدير موقف يأخذ بعين الاعتبار مجموع أهداف الحركة الديمقراطية التونسية في ظل موازين القوى الوطنية والاقليمية و الدولية الآن .