لا أرى للأحزاب مكانا في هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخ البلد إلّا في أطر التّفكير الاستراتيجي في صياغة البرامج العمليّة لإنقاذ البلد ممّا تردّى فيه من أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة حرجة والعمل على توفير الشّروط الموضوعيّة لإنفاذها في الواقع، وبقطع النّظر عن الأبعاد السياسيّة المباشرة لنزول الأحزاب للشّوارع سواء للمغالبة والاستقواء أو الضّغط لتحسين شروط التّفاوض أو فرض أمر واقع سياسيّ أو التّعبير عن الاصطفاف والإيهام بوجود ميزان قوى لصالح هذه الجهة أو تلك، بعيدا عن كلّ ذلك وهو ما يخوض فيه الإعلام وكرونيكوراته النّبهاء باستفاضة، في تقديري هناك أبعاد أخرى لمسيرة 27 فيفري التي أطلق عليها بعض الظّرفاء مسيرة قطار النّهضة من باب التّندّر لكن يبدو أنّ جماعة النّهضة استحسنوها واستمرؤوها :
*أوّلا :
هذه المسيرة لدى عموم قواعد النّهضة هي بمثابة الاحتفاء بالتّوافق الذي حصل مؤخرا بين الأجنحة القياديّة التي شهدت خلافات حادّة كادت تعصف بوحدة النّهضة وتقسّمها عموديّا وأفقيّا وجهويّا، ولعلّ أحد أهمّ تعبيرات ذلك الخلاف عريضة المائة التي كانت صرخة احتجاج من أجل دمقراطة الحركة باحترام القانون وتحقيق التّداول القيادي وأساسا على مستوى رئاستها والتّقليص من غلواء المركزة وتهميش المؤسّسات، كان جسم النّهضة قاب قوسين أو أدنى من الانقسام، لكن انتصر التّوافق بالتزام رئيس الحركة بعدم التّجديد واحترام القانون ممثّلا في الفصل 31 وتشكيل مكتب تنفيذيّ توافقي يضمّ مختلف الفرقاء.
لذلك تتنزّل هذه المسيرة في إطار التقاط الأنفاس بعد فترة قلق ويأس وإحباط بلغت فيها القلوب الحناجر وهذا ما يفسّر الإقبال النّهضويّ والأجواء الاحتفاليّة التي لم يفهمها خصومها ولم يلتقطوها.
*ثانيا :
تتنزّل هذه المسيرة في سياق تنشيط القواعد النّهضويّة التي عرفت جمودا وعطالة طيلة فترة الخلاف الذي دبّ داخل الصفّ القيادي النّهضويّ وذلك استعدادا لسيناريوات ممكنة في الفترة القادمة حيث يتنادى البعض بضرورة عقد انتخابات سابقة لأوانها، بل انخرطت جلّ الأحزاب في حملات انتخابية مبكّرة سواء كانت الانتخابات عاجلة أو آجلة، بل اتّخذ البعض من الاعتصامات وتحركات الشّارع أسلوبا مقنّعا لحملات انتخابيّة لترذيل الخصوم وإضعافهم وتهرئتهم معنويّا وأخلاقيّا وسياسيّا حتّى لا يصل موعد الانتخابات إلّا وهم في أسوأ حال من حيث شعبيتهم وصورتهم في نظر الشّعب ،
لذلك تعتبر هذه المسيرة لدى الجمهور النّهضويّ شكلا من أشكال تجديد العهد والولاء ورصّ الصّفوف والتّعبير عن الجاهزيّة لخوض التحدّيات الانتخابيّة القادمة.
*ثالثا :
تعتبر هذه المسيرة استنفارا ضدّ الخطابات الدّاعية لإخراج النّهضة من المشهد السياسي وهي دعوات تثير تخوّفات النّهضويين وتذكّرهم بسنوات القمع والإرهاب الذي مارسته الدّولة ونخبها على عموم التيّار في شكل عقوبة تدمير جماعي مسّت المنتمين وعائلاتهم وأقاربهم، إنّ ما يعبّر عنه خصوم النّهضة من مواقف عدوانيّة مبالغ فيها وصلت حدّ استعمال عبارة " نريد رأس رئيسها "، زد على ذلك الشّطحات الفلكلوريّة لزعيمة الحزب الفاشي وعدم تفويتها أيّ فرصة للتّعبير عن الدّعوة لاجتثاث النّهضة وكلّ ما يمتّ لها بصلة، كلّ ذلك يصبّ بشكل موضوعيّ في تغذية مشاعر الخوف الذي يتجاوز السياسي إلى الاجتماعي والشّخصي، ويدفع إلى التّداعي للوحدة والتّضامن ورأب الصّدع،
لذلك هذه المسيرة في عمق الضّمير النّهضويّ هي استجابة طبيعيّة لخطابات التّهديد والوعيد واستعادة مُسْتَثَارة من خصومها لثقافة المحنة التي لا تزال تلاحق الذّاكرة النّهضويّة الجماعيّة وتثقلها.
*رابعا :
ليس خفيّا ما لهذه المسيرة من بعد سياسيّ يتعلّق بنصرة الحزب في خياراته السياسيّة المتعلّقة بالنظام البرلماني ومساندة الحكومة والدستور لكن الأهمّ من كلّ ذلك وما يعدّ نقطة فارقة في تاريخ ما يصنّف ضمن حركات الإسلام السياسي في البلد هو تنظيم مسيرة جماهيريّة لأوّل مرّة من خارج عنوان الإسلام الاحتجاجي في مواجهة الدّولة، حيث لم تشهد النّهضة حتّى زمن التّرويكا مسيرة بمضامين الشعارات التي أعلن عنها، ممّا ينقل النّهضة وجدانيّا وذهنيّا من مناهضة الدّولة إلى الدّفاع عنها وعن مؤسّساتها وخياراتها الدّيمقراطيّة والدّستوريّة،
هي نقلة نوعيّة لا يمكن أن يستشعرها من لم يتابعوا تطوّر خطاب هذا التيّار من الدّعوي إلى الفكر السياسي الشّمولي إلى التّعبيرات الاحتجاجيّة ومغامرات المواجهات التي استهدفت منظومة الحكم، إلى مرحلة جديدة قائمة على التّطبيع مع الدّولة والتحرّك من داخلها بكلّ ما لذلك من محاذير واختبارات ومعادلات صعبة " دولنة الثّورة أو تثوير الدّولة من داخلها " … يمكن أن تتحوّل النّهضة مع هذه المعادلة إلى تجمّع جديد، ويمكن أن تكون مدخلا لضخّ نفس إصلاحيّ جديد داخل الدّولة.
*أخيرا :
اختارت النّهضة بشكل رسميّ صورة مظاهرة 9 أفريل 1938 من خلال نشرها في الصّفحة الرسميّة لرئيسها ممّا أثار احتجاجات الكثيرين واعتبروه سطوا على تراث الحركة الوطنيّة وتسويقا مضلّلا، بينما يراه المتابع لفكر هذا التيّار الذي اعترف في لوائح مؤتمره العاشر بغفلته عن تراث الحركة الإصلاحيّة والوطنيّة ضربا من الوصل بهذه الحركة والانتساب إليها، حتّى لو افترضنا أنّه تسويقيّ فسيكون له أثر في الوعي العامّ يحفّز على الانغراس في التربة الثّقافيّة والتاريخيّة لهذا البلد …
من أهمّ ما ورد في كلمة الزّعيم علي بلهوان يوم 8 أفريل 1938 والتي أدّت لاعتقاله وكانت منطلقا لاندلاع أحداث 9 أفريل تحت عنوان برلمان تونسيّ :
" يا أيّها الذين آمنوا بالقضيّة التّونسيّة، يا أيّها الذين آمنوا بالبرلمان التّونسي، إنّ البرلمان التُّونسي لا يُنبنَي الّا على جماجم العباد، ولا يُقَام إلّا على سواعد الشّباب، جاهدوا في الله حقّ جهاده ".