مناسبة هذا المقال هي الجدل الدائر هذه الأيام حول ترجمة رواية"المشرط" للروائي التونسي ومدير بيت الرواية كمال الرياحي إلى اللغة العبرية من طرف الباحثة والشاعرة ريم غنايم من فلسطينيي الداخل، ومبادرة صاحب الرواية بالتباهي والتبجح بصدور مقال نقدي للرواية في الصحيفة الصهيونية "يديعوت أحرنوت" في تدوينة نشرها على جداره بالفايسبوك، لكنه اضطر إلى سحبها عند اشتداد الهجوم عليه من المثقفين المتبنين لخط المقاومة للتطبيع مع الصهيونية ولجرائم الاستيطان الصهيوني بفلسطين المحتلة. يحتم الواجب الوطني العربي والإنساني الكوني عليّ إبداء رأيي في هذه المسألة بكل وضوح بصفتي مثقفا ومواطنا عربيا.
لن أتوقف عند هذه الحالة التطبيعية بالذات، ولن أنخرط في الجدل حول مدى انطباق التهمة التطبيع على مدير بيت الرواية كمال الرياحي، فهذه مسألة وإن خفي نصفها (إمضاء عقد الترجمة وقبض المكافأة عنه) فإن نصفها الثاني مفضوح، لا بحماقة المطبع وإنما بجرأته في الباطل القومي والإنساني، عندما لم يفلح في كبت فرحه باحتفاء الصهاينة به عبر تسجيل انتباههم لروايته وتثمينها بالنقد في إحدى أكبر وأشهر صحفهم، وعندما أراد إضافة الغنم المعنوي المتوهم إلى غنمه المادي المرجح لدي، كما تقضي بذلك القواعد القانونية للترجمة وحفظ حقوق المؤلف، إلا إذا كان صاحبنا من كبار الزهاد في المال لفرط إيمانه بقضية التطبيع ونصرته لها، ولكني سأتوقف عند مسألة كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات بصفة عامة.
لقد انقسمت المواقف حول القضية المذكورة آنفا إلى ثلاثة مواقف :
: 1-موقف مُدين ومُشهر بقوة بكل أنواع التطبيع ودرجاته.
:2-موقف متسامح مع التطبيع بدعوى أن القضية التي تهم التونسيين هي "القضية التونسية" وأن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم وأنه ليس علينا أن نكون أكثر ملكية من الملك نفسه، حيث نجد الخيانات للقضية الفلسطينية في صفوف الفلسطينيين أنفسهم. والسقف الأعلى لهذا الموقف هو المناداة بدولة واحدة تجمع الفلسطينيين والصهاينة يتساوون فيها مواطنيا في إطار حكم ديمقراطي ولذا يجب التدرب منذ الآن على التعايش بين الطرفين مهما كانت شروط هذا التعايش مفقودة ومهما كانت الحقوق التاريخية والإنسانية للفلسطينيين مهضومة.
:3- موقف "الأصدقاء الأوفياء" من زملائه الكتاب الذين يعلنون رفضهم للتطبيع وتسليمهم بإمكانية أن يكون صديقهم كمال الرياحي قد وقع في فخ التطبيع، ولكنهم في نفس الوقت يتعاطفون معه ضد الهجمة القوية التي تعرض لها (بالقلم) من طرف مثقفي خيار المقاومة. فما هو الموقف العاقل الرصين الذي يجدر بالمثقف العضوي اتخاذه إزاء هذه القضية؟
أنا أرى في الموقف الذي اتخذه أكثر من واحد من زملاء كمال الرياحي موقفا يمكن تفهمه. قال أحدهم أنا أحب كمال ولكن حبي لفلسطين وللمبادئ الوطنية الثابتة أكبر. ولذلك طالبه غير واحد من أصدقائه بقول الحقيقة والاعتذار الواضح عن اقترابه من دائرة التطبيع بل ولوجه الواضح فيها.
لكني أرى، من الناحية المبدئية، وبعيدا عن الاعتبارات الشخصية التي قد تحضر لدى أصدقاء صاحب الزنية التطبيعية، أن السياق الدولي العام هو سياق التخطيط العميق والدقيق للتغلغل الصهيوني في البلدان العربية وخصوصا في تونس المحصنة إلى حد لا بأس به بالديمقراطية وبالشعور الوطني القومي المتجذر في الشخصية التونسية، ولذا لا مجال للتساهل وللتبرير والتماس الأعذار والتسامح مع أي خطوة في اتجاه التطبيع مع الصهاينة والصهيونية.
أرى أن الفضح والتشهير رد عادل بالكامل على من لم يستح من التبجح باحتفاء الصهاينة بعمله. وأرى أنه لا مجال للإخوانيات والمجاملات في قضية الأمة المركزية. فإذا لم يستح المطبع من التباهي بدخوله في منطق جريمة التطبيع فكيف لصاحب القضية العادلة أن يستحي من التصدي القوي له بالكلمة الصادقة والشهادة الحق.
إن انهيار الحصن الشعوري هو بداية الانهيار الشامل، ولذلك لا بد من تحصين البنية الذهنية للمواطن حتى لا نؤتى من جانب ثغرة في جدار صده للعدو الماكر الخبيث. ليس الكاتب مسؤولا عن الكتابة عنه من قبل الصهاينة. بل ليس هنالك عيب حتى في الكتابة بالعبرية لتبليغ موقف أو أفكار مبدئية أو حتى الإسلام نفسه للناطقين والقارئين بالعبرية.
وليس هنالك عيب في ترجمة عمل عربي إلى العبرية إذا كانت الغاية هي تبليغ موقف وطني أو كوني مبدئي. لكن العيب كل العيب هو في القبول بهذا، لا في مثل السياق الذي ذكرته، وإنما فتحا للباب لإقامة حالة تبادل "طبيعية" بين العرب وجيش التساهال الصهيوني، فلا يخفى على أحد أن كل الإسرائيليين بدون استثناء أعضاء في هذا الجيش.
والعيب الذي لا يقل عن هذا فداحة هو في التباهي باحتفاء الصهاينة أو من يدور في فلكهم بعمل مترجم إلى العبرية. في حال عدم قيام حالة الصراع العربي الإسرائيلي الحالية وفي حال حل القضية الفلسطينية حلا عادلا فإن العودة إلى المبدإ القرآني: شعوبا وقبائل لتعارفوا، سيكون أمرا عاديا بل مرغوبا فيه. وفي غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية مع تواصل الجرائم الصهيونية فإن المبدأ هو "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فإن "الجنة قد حفت بالمكاره وحفت النار بالشهوات".