بالإضافة إلى المقيمين بالخارج والذين هم في مواقع التفكير المستمر، والاطارات العُليا في الإدارة وفي القطاع الخاص المتخرجين من المدارس العليا، هناك أكثر من 156 ألف مدرّس في المؤسّسات الابتدائية والثانوية، وأكثر من 20 ألفًا في التعليم العالي في مختلف المجالات، يستخدمون قُدراتهم الفكرية بشكل يومي لإنتاج مُخرجات مبنية على الصّرامة والصّدق والأمانة العلمية وتحمّل مسؤولية المواقف العلمية أمام أيٍّ كان.
فلا هذا يقبلُ أبدًا تعدّيا على نظرية بيتاغور ولا تطوير لايبنيتز، ولا الآخر يسمح لنفسه بأن يكون "المفعولُ به" مرفوعاً، ولا خبرُ "إنّ" منصوبًا، ولا الأخرون يُمكن لهم أنْ يقبلوا توازنا اقتصاديا أعلى من توازن "فالراس" (في إطار نظريته)، وهؤلاء لا يتوانون في انتقاد القول بأنّ "ارتفاع نسبة الفائدة يُرفّع في مسار تراكم رأس المال" ....
ومع طول السّنين، تُصبح لهم "شخصية علمية متوازنة"، لا تقتصر على التعاطي مع المواضيع بصفة جزئية لانّ ذلك خطأٌ فادح، فلا تقبل الغُموض ولا تستسيغ الاخبار والاقوال غير المبرهن عليها ولا تنساق جرّاء التُّـــرهات، بل تأخذ بالمبادرة للتدخّل حين ملاحظة اعوجاج ما وكُلُّها ثقة بالنفس ولا تخشى في ذلك لومة لائم.
وقد يكون للأيديولوجيا دور في التخفيض من التفكير السّليم، وقد تكون كذلك الوصولية والانتهازية سببا في اتخاذ مواقف سطحية أو ساذجة، لكن ليس الى حد انحناء دكاترة وكوادر واعلاميين الى أُطروحات الأحزاب الشعبوية وذات النفس الفاشي. انحناء تعيس يخون سجيّة المتعلّم النزيه الذي لا ينتظر ان يفهم الإرهاب من كلام سياسي، ولا الدين من حزب سياسي، ولا تاريخ الحركة الوطنية من نائب يدنّس التاريخ، ولا الوطنية من خلال استراتيجيات سياسية داست على المقدّس وحرمات الأشخاص والحياء كقيمة كونية، يقودها مرتزقة تقتات من الفُتات.
صحيح أنّ البحث عن الحقيقة يحتاج جهدا قاتلا، ولكن الساعات الطوال في تصفّح كتب التاريخ والدين والاقتصاد والإرهاب وعلم الاجتماع السياسي وغيرها من الميادين التي استحوذ عليها بعض المشعوذين بقلة أدب في الفضاء العام، أفضل بكثير من الاستماع إليهم، بل تمنح رضاءً بالنفس واستقلاليةً فكرية.
غريب أمر البعض أن يكونوا حطبا في المعركة الخاطئة. وقد تزول الغرابة عندما نلتفت الى،
1. فشل نظام التعليم الوطني إجمالا منذ بداية التسعينات والتدهور النسبي لرأس المال البشري، ذلك أنّ العديد من المتخرجين منه وجدُوا أنفسهم بدون شخصية علمية ومحدودي النظر في المسائل المُـــركًّــبة، وفاقدي السّلاح؛ سلاح التفكيك والتحليل والتوليف والمبادرة.
وليس أدلَّ من أن يعجز بروفيسور في الاقتصاد أن يربط بين ما علّمه لأجيال حول "التوازن العام" من جهة والواقع التونسي المُعاش ورهانات الانتقال الديموقراطي من ناحية أخرى، أو عندما يختبئ بروفسر القانون الدستوري بصفته الجامعية لتمرير مواقف سياسية ضد أو مع طرف سياسي معيّن... فلا هذا أو ذاك جال بخاطره أنّ فضاء الحريات الفكرية لا يتوسّع الا عند استثماره.
2. أزمة الزعامات: حيث أنّ النظام السّابق لم يكن يسمح بظهور الزّعامات المحلية أو الوطنية في كل المجالات الفنية والثقافية والسياسية والإعلامية. فلا حامي للدين والوطن الا هو، ولا صانع التغيير الا هو، ولا منقذ للبلاد الا هو، الى غاية أنّ الامر بدا ثقافةً لدى البعض في ذلك الوقت.
ومن تداعيات ذلك وُجود البلاد بدون زعامات تُذكر عندما احتاج التونسيون لهم. وذلك هو الجُرم في حق البلاد. فاستمال المشعوذون والدجّالون ونكرات النظام السّابق الغالبيةَ العاطفية وغير المطّلعة من التونسيين كما ساهم هؤلاء في صناعتهم.
3. عدم تجرّد النخبة السياسية الجديدة في غالبها من أهدافها الضيقة فصدّرت فكرة سلبية لدى العامة بانها انتهازية ولا تصلح لزعامة البلاد وذلك في ظل استقالة الـــ 156 ألف مدرّس في الابتدائي والثانوي، وأكثر من 20 ألفًا في التعليم العالي.