"لا شيءَ يُعْجبُني" يقول درويش، فأكرر والوجدان يضطرم مع مسافر في الباص: "لا شيء يعجبني، لا الراديو ولا صُحُفُ الصباح ولا القلاعُ على التلال. أُريد أن أبكي. يقول السائقُ: انتظرِ الوصولَ إلى المحطَّةِ وابْكِ وحدك ما استطعتَ".
أنا في المحطة بعد صعود القمر الصناعي والدمع كثير والأسباب أكثر. لم يجمع القمر الأول أهله حوله إفطار حزينا، والماكثون على الأرض يكيدون له كيدا.. يكيدون به كيدا، فيقرر ألا يعود. ربما سنحسده على الخروج من البلاد إلى السماء الحرة، فقد ترك خلفه قوما لا يتحررون من الصغار المدقع.
فالرئيس يركب الحدث بخطاب خشبي، والأحزاب تحقر القمر الصناعي نكاية في صانعه، والقمر قد يتأخر في العثور على أخيه.
الرئيس ظهر فجأة في قاعة المراقبة
لم تكن له علاقة بالمشروع منذ بدأ الحديث عنه في السنة الفارطة، لم يتحدث عنه في أي ظهور له، ولما جهز جاء يستضيف نفسه ويشكر صانعيه ويلتقط الصور، ثم يعاود الظهور ليتابع الإرسال، ولكنه فرض نفسه متحدثا باسم الصانع وفريقه ويتخذ من ذلك فرصة ليلعن شركاءه في إدارة البلد، بخطاب خشبي مكتوب أسوأ من خطاباته المرتجلة. حتى إنه لما دس له فيه خطأ تورط في الارتجال، فقال إنه لا يمكن التفريق بين الحق والباطل، فالحق بيّن والباطل ساطع، فأغلق المتابعون الصوت ليكتفوا بمشهد صعود الصاروخ الحامل للقمر.
قمر بحجم الكف لكنه قمر
كل الذين لديهم عداء استئصالي مع حزب النهضة الذي ينتمي إليه السيد محمد الفريخة، صاحب شركة تلنات مصنعة القمر ومرسلته.. حقروا القمر وقالوا عنه إنه بحجم طوبة بناء صغيرة. لم يظهر في صفحاتهم وفي إعلامهم ما يفيد بأنهم يرونه قمرا تونسيا صنعه تونسيون وطوروه، وأُنفق عليه رأس مال تونسي.
لم يحضر المعنى الوطني في المشهد، لكن حضر الحقد الأيديولوجي (نسيت أن أذكر أن الأخبار عن تأجيل الإطلاق بسبب عوامل المناخ من يوم 20 إلى يوم 22 قد حظي بنشر أكثر من خبر الإطلاق نفسه). لقد كانت نبرة الشماتة في التأجيل جلية، أما وقد أطلق فكانت لغة التحقير أجلى. هنا أيضا لم يوحدنا القمر ولا صانعه، وفاتت فرصة حديث الوطنية الجامع.
في كل لحظة من لحظات الفعل يكشف الاستئصاليون عن وجههم البغيض ويمنعون الناس من الفرح؛ لأن هناك احتمال فائدة لعدوهم. يدفع خطابهم أبناء النهضة وآباء القمر الصناعي الذي هة بحجم الكف للافتخار والمبارزة والشماتة في القاعدين، فيجعلون من ردة الفعل سببا إضافيا لتوسيع الشقة وتعميق الأخدود، ويبتعد البلد خطوة أخرى عن مستقبله نحو ماضيه الذي اصطبغ بحرب استئصالية ضيعت عليه نصف قرن.
قمر بحكم الكف لم تنجزه الدولة الوطنية بيسارها الوطني والعميل، ولم تنجزه بنخبتها المالية التي صنعتها ومنحتها حق امتلاك البلد فاستثمرت في تعليب المياه المعدنية وتعطيش الريف.. أنجزه رأس المال الخاص والذي صادف أنه ليس استئصاليا، لقد صار قمرا صناعيا تونسيا ويشرف على الاستئصاليين من علو شاهق رغم أنه بحجم الكف.
القمر الصناعي الثاني في علم الغيب
في فرح لحظة الإطلاق عبر السيد الفريخة عن قدرته على تصنيع أقمار أخرى وطرح عروضه لأفريقيا بأسعار تفاضلية. ويبدو أنه ملم بالسوق وبأسعار التصنيع، وقد يفلح وهو المستثمر في الذكاء منذ انطلاق عمل شركته في التسعينيات. لكن بكل التفاؤل والفرح الذي رافق إطلاق القمر الصناعي (الذي بحجم الكف) نعتقد أن المناخ السياسي التونسي لن يساعد على قمر ثان. إن هذا النجاح يزعج فرنسا، نعم إنها تراقب ولم تفلح في المنع لكنها لن تتخلى.
لقد سبق للرجل أن أنشأ شركة طيران دولية وتملك خطا مباشرا للسفر بين تونس ومونتريال (كندا)، فحرم مطارات فرنسا من ثمن الترانزيت بمطاراتها، فحرضت عليه في تونس فأغلق مكاتب الشركة ونقلها إلى نيجيريا.
إن فرنسا التي تخرب شركاتنا الوطنية هي نفسها التي تحرض ضد القمر الصناعي التونسي، ولن تتوقف حتى تفشله، والمحيط السياسي الداخلي لا يتضامن مع هذا النجاح ولا يحميه، بل العكس، سيضع يده في يد العدو ويخربه.
ونحن نكتب هذا الآن توقعا، ولكن لدينا يقين بحكم التجربة بأن خراب بلادنا مملى على بعض نخبتها، وستظهر الأيام قريبا صحة توقعنا. لذلك لا نعتقد أن سيكون هناك قمر ثان إلا إذا صنع في منطقة خارج نفوذ فرنسا. أين هذه المنطقة؟ إن أفريقيا تتحرر من فرنسا وقد تقلص نفوذها في بلدان كثيرة، وهناك يمكن للفريخة أن يشتغل بلا كيد محلي. ونرى أن ليبيا مكان مثالي للعمل بحرية أكبر، ففي ليبيا لا يوجد عملاء لفرنسا مستعدون لخيانات وطنية بلا مقابل.
لقد وصل الباص إلى محطته الأخيرة في تونس وسنبكي براحتنا، فلا شيء يعجبنا في بلد لا يفرح بالنجاح. ستنتظر الأجيال القادمة موجة تحرر قادمة من ليبيا، حيث لم يحل الطاعون الفرنسي، وهذه نبوءة لا يلتقطها القمر الصناعي.