وأنا استحضر ما نكتبه عن السيد الرئيس وله، استحضر كيف كان عمري ثمانية عشر عاما وأشياء عندما كتبت أواسط فيفري 1986 أول رسالة شكوى إلى "الرئيس الأب" الحبيب بورقيبة من الغرفة عدد 8 من سجن الكاف المدني، وقد بدأت على هيئة رسالة استعطاف بالصيغة الإدارية "تحت الإشراف السامي للسيد مدير السجن المدني... سيدي الرئيس، إني..." من تلميذ في الباكالوريا،
رأيتها بعد بضعة أسابيع تغطي فنجان القهوة في مكتب نائب مدير السجن، في الأثناء، تحولت رسالة الاستعطاف التي تدربت على كتابتها مرارا بسبب تمدد الزمن في السجن إلى نص متقطع على كراسة الفلسفة ذات 72 صفحة ثم إلى كراسة العربية التي كرهتها لأسباب يطول شرحها ولم أكتب فيها سوى 18 صفحة من أدب الباكالوريا البائس السخيف، ثم إلى رسالة طويلة لإفراغ ما في قلب مراهق محكوما فيما بعد بالمشاعر الكارثية بخمس سنوات ونصف سجنا بسبب مظاهرات تلاميذ إلى السيد الرئيس المحرر الأب الحنون الأزلي لكل التونسيين أروي فيها تفاصيل حياتنا اليومية في السجن،
حتى أني كتبت له، تحت تأثير الأحزان الأولى للسجن اعتذارا عن الحماقات التي كنت أقولها عنه في المقاهي خصوصا حين بث توجيهاته اليومية المقدسة في تلفزيونه. لم تتجاوز رسالتي الأولى إلى السيد الرئيس مكتب نائب المدير وأشك حقا إن كان قرأها أو اهتم لها، فما بالك بأن يقرأها السيد الرئيس. إنما تحولت لما انتقلت إلى "السكن" في سجن القصرين المدني إلى رواية سرية لما حدث لي، حولتها مع الزمن الطويل جدا في السجن إلى مذكرات أصبحت رواية "أحباب الله"،
في أول اهتمامي بما ترك الكاتب الكولمبي الكبير غبرييل غارسيا ماركيز عثرت على نص ممتع بعنوان "رحلة موفقة، سيدي الرئيس" عن النهايات التعيسة للرؤساء الهاربين من أوطانهم وشعوبهم إلى سويسرا محملين بالذكريات المتآكلة للسلطة إلى حد الترحيب ببواب عمارة في مدينة جينيف، واليوم أتساءل عن الأعذار التي يختلقها الرؤساء في الديموقراطيات الحديثة لتبرير عدم قراءة الرسائل عندما تنتهي مدة الحكم، لا شك أنه بسبب المستشارين؟ هل فينا من يعرف مستشاري السيد الرئيس؟
"السيد الرئيس" هو شخصية عامة وعمومية، وبعد أن "وحلنا في بعضنا" بالانتخابات، وإن كان فاتنا أن نعرف ما يلزم عنه قبل انتخابه، فنحن بحاجة إلى الحديث والكتابة عنه وإليه، إنما أكتب هذا لإحساسي أن السيد الرئيس منعزل عنا، لا يسمعنا، لا يقرأنا ولا يصل له شيء منا، نحن لا نرى منه إلا لقاءات خارج النص وهو فقط يطل علينا لإطلاق جمل غير مفيدة، أعرف بحكم المهنة أن مصالح الاستعلامات الرئاسية توفر له فجرا صورة متكاملة عما يحدث في هذا الوطن الكئيب، لكن الوطن ليس معلومات أمنية سرية، الوطن هو حياة وإحساس وإدراك للغة الناس،
السيد الرئيس ليس له الوقت لكي يقرأ كل شيء، لكنه مطالب دستوريا باتخاذ مستشارين جيدين من المال العام يقرأون له وآخرين يتحدثون باسم الرئاسة، إنما نحن لا نعرف إن كان أصلا هناك من يفعل ذلك، ولا حتى من يدبر له كتابة تلك "البلاغات الحطبية" التي تنشر في موقع الرئاسة، التي كثيرا ما يلحقها التنقيح أو السحب لما فيها من أخطاء منهجية وأسلوبية بدائية، السيد الرئيس بعيد جدا عنا، ليس فقط لانعزاله عنا بخطابه الخشبي الذي لا يجد من يجعله "رئاسيا" إنما أيضا دون مستشارين وقادة رأي حوله، حتى أن الكتابة إليه، أيا كانت الإنسانية في الموضوع تبدو بلا معنى.