نكتب ضد أدعياء التقدمية بعد مران وتمحيص للخطاب والممارسة تواصل مدة نصف قرن تقريبا، ونرى أن خطاب التقدمية هو خطاب مزيف، وهو بمثابة توسيم للذات خشية اكتشاف العجز الكامن فيها.
التقدميون في تونس ليسوا فرقة واحدة أو حزبا واحدا، بل هم "طرائق قدد" يختلفون في الكثير ويلتقون في نقطة واحدة تؤطر سلوكهم العصابي؛ هو رفض المختلف ووسمه والتعالي عليه.
الوسم يقوم على أن كل من لا يتبنى تصوراتهم رجعي، ولأنه كذلك فمصيره الوحيد وموقعه الأخير هو أن يكون "إخوانجيا". هذا الوسم لا يحتاج إلى دليل، فيكفي أن يخرج المرء نفسه من دائرة الاستئصال السياسي ليحشر في تلك الزاوية المميتة ويمهد لاحقا للقضاء عليه في رزقه وفي وجوده الاجتماعي.
لقد حصر التقدميون تقدميتهم في تيمة واحدة هي الحرب على التيار الديني، أما بقية التيمات فقشرة سطحية لم تمنعهم من الوقوف في صف الدكتاتورية في كل مراحلها وبمختلف تبريراتها، بل لقد وفروا لها المبررات الكافية في إطار نفس المعركة، لتنتعش وتكيف البلد في شكل مرضٍ للحداثة والتقدمية.
البدايات المتعثرة للديمقراطية في تونس جعلت القتل الجسدي عسيرا، لكن بقي أمام التقدميين أن يقطعوا رزق كل من ليس معهم، وكل الوسائل غير الديمقراطية متاحة ومشروعة، لتنكشف التقدمية عن نزعة استعلائية ليست إلا احتكارا لمواقع المنفعة من الدولة بصفتها حوزا شخصيا غير قابل للقسمة، لذلك فالخوانجي وإن لم ينتم إلى حزب إسلامي ممنوع من كل حقوقه المهنية ومن حريته في الكلام، فالوسم هنا صار وسيلة إقصاء مهني في العمق. التقدمية في تونس (ويمكن التعميم عربيا) هي متراس مهني وليست مشروعا فكريا.
من هؤلاء التقدميون؟
هم أولا فئات اليسار وأحزابه وشخصياته الفاعلية والمستترة في زواريب الإدارة، وخاصة في مواقع الفعل الثقافي والتربوي والتعليمي ذات المردود المادي المباشر من رواتب عالية ومنح دعم ثقافي. وثانيا هم فئات متعلمة اتخذت المصعد الاجتماعي العمومي وحازت به مواقعها المجزية، ووجدت نفسها تحت حكم التقدميين من اليسار، فاختارت الاستظلال بظله للحفاظ على مكاسبها الشخصية. فهي تقدمية بالموالاة السياسية للخطاب التقدمي اليساري حتى لا تتعرض للأذى النقابي، أي تقدمية خائفة على مصالحها الفردية لأن النقابة المحتكرة من قبل اليسار صارت عصا غليظة تسلط مهنيا على كل رجعي. هم تقدميون بالخطاب أيضا ويجتنبون من خوف أذى تقدميين آخرين بإعلان الوقوف ضد الرجعية، بما يجعل الموقف موقفا مهنيا لا فكريا.
لذلك، فإنه سرعان ما يكتشف عندهم فراغ الفكر وغياب الموقف، وعند الإلحاح عليهم في الجدل يعرضون فكرا لا يختلف في شيء عن كل التيمات المحافظة التي يتقاسمونها فعليا مع من يسمونهم بالرجعية. والصورة الكاريكاتورية لذلك هي إعلان الإلحاد كسمة من سمات التقدم ثم، التحصن بمصحف في السيارة الشخصية للوقاية من الحوادث، ولا نستبعد إخفاء الأحجبة والتعاويذ في الحقيبة الشخصية لكثير من التقدميات.
ما هي تيمات خطاب التقدميين؟
استعار التقدميون مفردات خطاب الثورة الديمقراطية ضد الفكر الكنسي وممارسات الكنيسة كما تتبعناها في قراءات تاريخية متعددة منذ الثورة الفرنسية، لذلك فإنهم يتخذون موقفا جذريا من المعتقدات الدينية ما قبل الوضعية. وهم يلحون في نقدهم للممارسات الدينية الإسلامية على التطابق المطلق مع ممارسات الكنيسة وإكلريوسها. وفي الوقت الذي يتحدثون فيه عن ضرورة المراجعة الجذرية لما يسمونه بالإسلام التاريخي، فإنهم يقفون عند حقب الانحطاط السياسي ويعممونها لتستقيم فكرتهم عن توافق كل الخطاب الديني الرجعي (كل الأديان) عبر الأزمة المختلفة. ويتبع هذه التيمة المركزية كل شكليات الخطاب الجندري على صيغة سيمون دي بوفوار ومفردات الحرية الفردية بما فيها الحرية الجنسية، وصولا إلى حرية استهلاك المخدرات باعتبارها مفردة من مفردات الحرية الفردية.
هذه القراءة مريحة لأنها تقطع مع كل جهد فكري يوصل إلى الإقرار باختلاف التجارب التاريخية بين الإسلام والكنيسة المسيحية، وهي قبل ذلك قراءة نفعية تسهل الوسم بالرجعية. فكل من يقول باختلاف التجارب الدينية يفتح باب تعامل مختلف مع أحزاب الإسلام السياسي الراهن. وهذا في جوهره توقيت مهني صرف كي لا يصار إلى تقاسم مغنم مادي مع طرف يملك حق الوجود ضمن مشهد محدود المنافع.
هكذا يتم الانتقال من نقد الخطاب الديني وهو حق فكري مشروع إلى رفض كل من تسول له نفسه الانتماء إليه. في المعلن من الخطاب حماية الدولة من الرجعية والفكر الرجعي (وهو حق منحه التقدميون لأنفسهم قبل الديمقراطية أي توسيم ذاتي بلا دليل)، وفي باطنه حماية المنافع المحتملة من شريك له فيها حق خولته الديمقراطية.
هذه التقدمية النفعية منعت كل نقاش فكري حقيقي وحمت مكاسب أصحابها، وكثير منها تم الاستحواذ عليه تحت الدكتاتورية المشغولة بسرقة المال العام. ويكفي هنا أن ننظر في أسماء أعضاء اللجان العلمية التي تفتح باب الدخول إلى الجامعة لنعرف مواقع التقدميين وأدوارهم وأهدافهم الحقيقية (بعيدا عن تقدمية الخطاب). هناك منطقة نفوذ محتكرة هي رواتب الجامعة، ومثلها لجان الدعم الفني في المجال الثقافي.
ويمكن ضرب أمثلة كثيرة، فحيث ما كانت هناك منفعة يمكن التنافس حولها (أو الخوف من قسمتها) تم استدعاء خطاب التقدمية لحماية المنفعة من الرجعية. نحن إزاء خطاب مزيف ليس إلا نزعات حماية منفعية، أي أيديولوجيا صرفة.
ألا يوجد تقدميون في تونس؟
قطعا هناك الكثيرون، ولكن عنوان وجودهم الحقيقي هو الإيمان بالديمقراطية. فلا مجال للفصل بين التقدمية كنزعة نقدية وبناء الديمقراطية السياسية، وهنا موضع الاختبار لجوهر التقدمية الفكرية.
هناك سؤال مشروع يسبق كل هذا: هل تراثنا السياسي والأخلاقي المستند إلى تأويل للنص الديني يستحق التبجيل المطلق والحماية من النقد؟ الإجابة بسيطة وواضحة: تجربتنا السياسية (العربية الإسلامية) منذ بداياتها عرفت خروجا عن النص الديني (بصيغته المثالية أو المعتبرة إسلاما نصيا)، وهذا الإسلام التاريخي أنتج الكثير من الممارسات المنحطة سياسيا ووقع في الخيانات وبرر لكل ظالم، ويمكن العثور فيه على حوادث أشد انحطاطا من تجربة الكنيسة المسيحية، لذلك فنقده يعتبر عملا فكريا تقدميا. وهنا يحل السؤال الثاني: هل كل من ينقد هذا الإسلام التاريخي تقدمي فعلا؟
التعميم بنعم أو بلا جريمة فكرية، لكن كل نقد لهذا التراث لا ينتهي ببناء الديمقراطية التي تسع الجميع بمن فيهم المنتمون إلى هذا التراث؛ هو نقد غير تقدمي، بل هو رجعية أخرى تتوسل التقدمية، ولكنها زيف مطلق. وجب الفرز إذن على قاعدة الديمقراطية السياسية والفكرية.. إن بديل الرجعية الدينية هو الديمقراطية.
إن قراءة نصف قرن من خطاب التقدميين في تونس وممارساتهم (ولن نحتاج إلى أكثر من ذلك للتدليل) كشفت لنا هشاشة التقدميين وخواء خطابهم، ونحن نراهم مجرد أيديولوجيين صغار يحمون مواقعهم في سيستام غير ديمقراطي. ولا يختلفون في شيء عن خطاب فئة أخرى من الرجعيين وأعني بهم من حمى السلطة وسمح لها بالقمع والقتل والتشريد باسم الدولة وباسم مشروع وطني (هيولي غير واضح المعالم)، لنخلص إلى مقياس جديد فرضته الثورة على من انتمى إلى الديمقراطية السياسية ولو في صيغتها الليبرالية، ولو أجل إلى حين حديث الديمقراطية الاجتماعية (وهو مطلب تقدمي لا شك فيه ولا خلاف حوله) فهو تقدمي، ومن رفض التعايش الديمقراطي الذي يعطي للجميع حقوقا متساوية في الوجود والمنفعة فهو رجعي ومتخلف، وخطابه مزيف وموقعه وانحيازه رجعي لا خلاف حوله.
لا يمكن للمراء أن يكون تقدميا وينافح عن أنظمة عسكرية ويحتمي بها، ولا يمكن لمن يزعم التقدمية أن يدافع عن نظام كنظام بشار الأسد. ولقد رأينا تقدميين كثرا منذ الثورة يستظلون بظل نظام آل سعود لمجرد أن هذا النظام يعادي ويحارب تيار الإسلام السياسي الذي يُحصر في تيار الإخوان المسلمين وفروعه القُطرية.
تقدميون يحمون رواتبهم من منافس يملك أن ينافسهم بالعدد.. هذه هي الخلاصة البسيطة، ولكن الواضحة. فلا يحدثن أحد عن تقدمي يعيش براتب من دولة رجعية غير ديمقراطية، وخاصة ذلك اليساري الذي يسترزق من الدعم العمومي. فأول شروط اكتمال الموقف الفكري التقدمي ألا تكون موظفا.. عش مثل ماركس فقيرا وحرا على الأقل، أو اعتمد فقرك مقياسا مثل روسو، ولا تخنع لسلطة من يدفع لك. يمكنك الاقتداء بسيرة أوجست كونت، عدو الكنيسة الذي أسس التفكير الوضعي ولم يدخل الجامعة التي تخضعه لشروط الراتب العمومي.
أتوقع تعليقك منذ الآن (هذا مقال خوانجي يدافع عن الخوانجية).. ابق هناك، فالتاريخ يسرع الخطى إلى الديمقراطية. أنت توسم ذاتك المضطربة وكاتب المقال يفكر في المستقبل ولا يحتاج إلى أوسمتك المزيفة.