لو كان قادر على الأكثر لفعله، ولكنه يصل إلى نهاية طريقه في إعاقة الديمقراطية. عن اليسار الفرانكفوني والاستئصالي وعن فلول منظومة بن علي أتحدث. هو ليس فرقة واحدة، ولكنه يلتقي في نقطة مشتركة، هي خوفه من تقدم الديمقراطية في مجالات اكتسبها وأغلق أبوابها دون بقية التونسيين، ويرى أن الديمقراطية تحرمه منها إذا تمكّن عدوَه من بعضها في كل خطوة تخطوها إلى الأمام.
التسريبات تكشف مواقع اليسار
كثيرة هي التسريبات ومتتابعة رغم عدم وضوح الجهة التي سجلت والتي سربت (وهذا من طبيعة كل تسريب/ جوسسة)، كشفت مواقع المتآمرين على الديمقراطية. فهم في القصر وحوله وفي البرلمان وفي كواليسه وفي الحكومة وإداراتها. وهذه مواقع كثيرة تمنح قوة إذ تسمح بالوصول من طرق مختصرة إلى مواقع القرار السياسي وتوجيهه، وقد تم حوزها قبل الثورة وبعدها بطرق بعيدة عن الديمقراطية. ومكّنت أصحابها من توجيه العملية السياسية في البلد ومنعت إنجاز الانتقال الديمقراطي الذي استعاض به الناس عن ثورة كاملة (عجزًا وخوفًا وجهلًا بالتاريخ).
من الذي يملك هذه المواقع النافذة؟ وكيف وصل إليها. إنه اليسار التونسي بشقوقه ومسمياته المختلفة وفلول التجمع بدرجة أقل. ويعود هذا إلى أسباب كثيرة أهمها الانخراط الواعي والمنظم في منظومة حكم بن علي منذ بنائها إلى حين سقوطها والعمل مع فلولها بعد سقوط رأسها. اليسار التونسي تخصص في الاستيلاء بطرق قانونية في ظاهرها، ولكنها غير أخلاقية في الباطن والنتيجة، هي أن الدولة العميقة صارت له بل هو الدولة العميقة.
لقد كان هناك يقين عميق لدى اليسار التونسي أنه لا يربح الانتخابات ولو غاب عنها عدوه الأولي (الإسلاميون)، فهو قليل العدد لذلك اختار التسرب إلى داخل المنظومة بطرق التقية الباطنية غالبًا، فإذا ملك موقعًا حماه دون كل دخيل وبالوسائل غير القانونية دومًا. وتشهد على ذلك سيطرته على النقابات وعلى رابطة حقوق الإنسان منذ عقود. وقد كانت منظومة بن علي التجمعية تسمح له بذلك لتسهل مراقبته ولشعوره الدائم بأنه تحت الرقابة التجمعية، فكان يخضع لها ويتآمر معها على كل مطلب شعبي في الحرية والديمقراطية (أو يقسم معها) سواء في النقابات أو في الرابطة، وهي مجالات الحركة الوحيدة المتاحة للتموقع وشغل مقعد المعارضة ثم قبض الثمن.
لقد كانت منظومة بن علي تحارب الإسلاميين وكانت عصاها الغليظة قبل الداخلية هي اليسار في المواقع التي منحت له. لم يكن الثمن مكلفًا، فمنظومة بن علي اللصوصية كانت جشعة، وكان فتح بعض مواقع ونوادٍ للخمر المدعومة (مثل دار الصحفي أو دار الكاتب) يكفي هذا اليسار الحداثي.
حكم هذا اليسار بعد الثورة وحقق مطالبه أو يكاد. ولم يكن له مطلب مهم مثل تحقيق الديمقراطية الاجتماعية. كان إقصاء الإسلاميين من تملُّك السلطة أو حتى المشاركة فيها هو المطلب الوجودي، وإنه يتحقق بكل دقة. والتسريب الأخير يثبت أن القصر صار في قبضة فئة منه لم تدخر جهدًا لتوجيه سلطة الرئيس ضد الانتقال الديمقراطي الذي يسمح للإسلاميين بالوجود والمشاركة. وما نعيشه هذه الأيام في تونس هو تدبير يساري صرف.
أعداء الديمقراطية يتراجعون
نعيش حالة عطالة تامة، فلا الحكومة تتقدم ولا الرئيس يقود ولا الانتقال الديمقراطي ينجح. حال البلد واقفة. وزادها الوباء عجزًا. والمطلوب لتسريح الوضع من وجهة نظر المعطلين إقصاء الإسلاميين من مواقع القرار عبر مسارات متوازية لتعطيل البرلمان الذي لهم فيه كتلة وازنة، وإرباك الحكومة التي يسندونها رغم أنها ليست من اختيارهم وغير ممثلين فيها، لكنهم يمنعون عبر تحالفات هشة سقوطها.
نلاحظ مرة أخرى تحالفات غير معلنة، بل مموهة بدقة بين فلول التجمع تقوده الفاشية في البرلمان وفئات يسار في النقابات تفرض إضرابات عامة من أجل مطالب من قبيل تحقيق السيادة الوطنية (وهو مطلب غير مفصل ليوجه إلى حكومة)، وفئات يسار آخر تسربت إلى القصر وحاصرت الرئيس بعدما كان تعاديه بزعم أنه داعشي أو نهضوي، وهذه الفئة (يسار البوبو أو اليسار البرجوازي) تتكلم تقريبًا باسم السفير الفرنسي أو تنسق معه. توزيع مواقع وتوزيع أدوار من أجل تحقيق الهدف نفسه أو الهدف الوحيد منذ وجد اليسار ومارس السياسة.
لكن كل هذه القوى التي تعمل في تناغم ضد الانتقال الديمقراطي تفشل حتى الآن في إنهاء الانتقال الديمقراطي، وبالتالي تفشل في إقصاء العدو الإسلامي من مواقعه.
فالبرلمان رغم كل التعطيل الذي يتعرض له، يملك مفاتيح الحل السياسي. ورئيس البرلمان محاور أول في الأزمة وكتلة حزب النهضة هي عمود إسناد الحكومة. أما تعطيل المحكمة الدستورية فيتحول إلى أزمة صنعها الرئيس وتقع عليه مسؤولية كبيرة لحلها، لن يمكنه الهروب منها إلى ما لا نهاية. وفي كل حل سياسي يجد اليسار أن حزب النهضة يقف أمامه ويضمن الحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي الذي يضمن له مكانة ودورًا.
إن الحرص اليساري على إبقاء المعارك السياسية عند نقطة إقصاء الإسلاميين، يعطل كل مطالب الثورة والانتقال الديمقراطي، ولكنه يعطل أيضًا تطور اليسار ويمنع تحوله إلى قوة اقتراح وبناء ضمن ديمقراطية تعددية، فيها للإسلاميين موقع وشراكة.
هذه المعركة التي تتواصل منذ نصف قرن من عمر الدولة، أدركتها الثورة ولم تغير نمط تفكير اليسار ولا خطته الأصلية. وفي هذه الحقبة الزمنية الطويلة لم يندثر الإسلاميون، بل نجحوا في تجاوز كل المطبات، وهم يضمنون الآن استمرار الانتقال الديمقراطي لما لهم فيه من مصلحة. ويبدو أن أكبر مصلحة لهم فيه هي رؤية عدوهم يعجز عن استعادة مجزرة بن علي ضدهم، ثم يعجز عن لحم صفوفه في مواجهتهم، ما يبشرهم بقرب نهاية المعركة.
إن نهاية معركة الاستئصال هي نقطة انطلاق الديمقراطية، ونعتقد أن الأزمة الحالية ورغم مواقع اليسار المعطل هي الإيذان بتحول عميق. فالفشل كشف عن وجوهه التي ترفض التطور والتغيير.