نحتاج أن نصرخ بجمل واضحة لا نفاق فيها ولا تلبيس، فالثورة التونسية مهددة من الداخل قبل الخارج وعلى أنصارها الالتفاف حولها وإعلاء صوتها في مواجهة التهديدات، وما يجري الآن تحت أسماعنا وأبصارنا من زعم الاختلاف بشأن مقاومة الفساد أو تأويل الدستور ليست إلا مسرحًا تافهًا لجر الثورة بمنجزها القليل إلى حضيض الاحتراب الأهلي عبر إعادة إنتاج الإقصاء على طريقة بن علي ونظامه الذي أسقطته الثورة وحررت إرادة الناس من الخوف والقهر.
من نحن لنصرخ؟
من نحن لنصرخ بحماية الحرية؟ نحن الذين عايشنا الإقصاء السياسي وتحملنا نتائجه الكارثية على الحرية والنماء الاقتصادي وعلى معنى وجودنا نفسه، نحن الذين شهدنا بصمت جبان على بشر يدفن في الخرسانة ولا نزال نسير فوق الجسر بلا حياء. وكم شهدنا من نفاق؟ ونحن الذين أملنا أن تنهي الثورة فكر الإقصاء ونفوذ كل إقصائي، لكننا نجد أنفسنا مرة أخرى على عتبة حرب استئصالية تتخفى خلف شعارات سفيهة منها مقاومة الفساد بيد من صنع الفساد وصنعه الفساد، هذه المرة لن تنطلي، سنتربص بكم لنحمي حريتنا ونحمي مجتمعنا.
ليس لما يجري في تونس الآن مسمى آخر غير استعادة نظام بن علي بروحه وأدواته ومن أجل نفس الهدف، تونس بلا إسلاميين، فهذه ليست معركة التونسيين المرعوبين من الوباء والفقر وضعف الحيلة، هذه معركة فرنسا في تونس وشمال إفريقيا، وهي تجد لها نصيرًا في الداخل لم يمكنه إعادة بناء خياله السياسي ضمن ديمقراطية تعددية، لذلك تنفخ فرنسا في روحه ليدوم أبدًا ولا بأس أن تنهار التجربة الديمقراطية ما دامت مصالح فرنسا تنتعش من الاحتراب الأهلي.
على ماذا نبني هذا الموقف؟
لم تخسر فرنسا قطميرًا من حرب بن علي على الإسلاميين لمدة ربع قرن، بل لقد ربحت وانتعشت شركاتها العاملة في تونس، وتحولت إلى أكبر محرك للاقتصاد التونسي خاصة بعد انهيار مؤسسات القطاع العام والتفويت فيها بطرق مشبوهة وبتواطؤ نقابي مفضوح، واتسعت هيمنتها على حقل الثقافة والتربية حتى إن حصص اللغة الفرنسية في التعليم الابتدائي والثانوي صارت أكثر من حصص تعليم اللغة العربية، أما الجامعة فتنطق بفرنسية خالصة.
لقد منحت فرنسا نظام بن علي كل أسباب الاستقرار حتى ساعاته الأخيرة، وكشفت الثورة الغليان الشعبي ضد الوجود الفرنسي وهيمنته على مفاصل البلد، فتحولت إلى ثورة تحرر وطني وإن لم تصغ جملها بوضوح، وهذه الموجة أرعبت فرنسا خاصة إذا ربطتها بغليان مماثل في الحراك الجزائري وفي ليبيا الثورة.
هل يعني هذا أن الإسلاميين ضد فرنسا ووجودها؟ لا نقول ذلك ولا نراه، فالإسلاميون بدورهم مرتبكون إزاء هذه العلاقة وليس لهم سياسة واضحة في الأمر وفيهم من يهرب من المواجهة ويجنح إلى المسالمة وفي كل مسالمة خوف وفي كل خوف خيانة.
لكن إذا توقفت الحروب الداخلية واتجهت الإرادة الشعبية إلى بناء اقتصاد متحرر من الهيمنة الفرنسية، فإن خسارة فرنسا من سلم داخلية لا يمكن تقديرها لذلك نراها تعمل جاهدة بواسطة عملائها في الداخل على استدامة الحروب الداخلية التي تشغل الناس عن همومهم الحقيقة لتورطهم في حروب جانبية تشتت شملهم وتربك إرادتهم، وهذا مكسبها الأكبر من إحياء حرب الاستئصال لتكون الحرب الوحيدة في تونس.
حرب الاستئصال السياسي بعناوين تقدمية مرة وبعناوين مقاومة الإرهاب أخرى، هي خطة فرنسية لإلهاء التونسيين عن بناء مستقبلهم بروح الثورة وهي تحرض وتجري لصالح الهيمنة الفرنسية التي لا تبذل فيها جهدًا كبيرًا، بل تكتفي بتحريض التونسيين ضد بعضهم البعض وتقطف ثمار المعركة في حسابات شركاتها.
باختصار شديد التونسيون يحاربون بعضهم البعض لصالح الشركات الفرنسية والعناوين البارزة أن الإسلاميين رعاة الفساد بعد أن كانوا عنوان الرجعية الفكرية والثقافية والإرهاب الإسلامي، ففي كل مرحلة يظهر عنوان لكن المعركة واحدة.
وجب وضع حد لهذه الخسارات
وجب فضح هذا الارتباط بين النخب الاستئصالية ومصالح فرنسا في تونس (في شمال إفريقيا عامة)، وبداية الطريق هي فضح خلفية معارك الاستئصال، إنها ليست معارك ديمقراطيين ضد إرهابيين ولا معارك تقدميين ضد رجعيين، بل معارك فرنسا ضد حرية البلد ونمائه وحريته في أن يبني علاقاته الاقتصادية طبقًا لمصلحته.
هذه زاوية النظر الوحيدة الحقيقية، ولا يربكنا التصنيف السياسي الذي تروجه آلة الدعاية الموالية لفرنسا، فالدفاع عن الحرية التي يستفيد منها الإسلاميون لا تجعلنا منهم، بل تجعلنا في موقف الصف الديمقراطي وهو ليس هينًا أو ضعيفًا لأنه الصف الذي أنجز الثورة وفرض وعيها المعادي للاحتلال والهيمنة.
في مناخ حريات - نستميت من أجله - يستطيع الجميع أن يعمل وأن يثبت نفسه وحقه في البقاء ويقدم أفكاره وبدائله أو يتضح للجمهور قصوره وعجزه فيحكم عليه بالصندوق وهذا أملنا ولسنا ننحاز إلا للحرية، وما نراه الآن من ادعاءات بمخالفة نص الدستور بما في ذلك احتكار تأويله هي معركة ضد الحريات يخوضها البعض بسوء نية وعمالة مفضوحة ويخوضها البعض بغباء غير قابل للتطور والنضج السياسي.
لنصرخ إذن بجملة واضحة لا لبس فيها: إما أن نستكمل الانتقال الديمقراطي نحو ديمقراطية تامة يكون فيها مكون إسلامي وطني وإلا لن نسمح بإعادة بناء نظام فاشي يعيش العمالة من الإقصاء ويخرب المستقبل.
لقد اتضح المعسكران: معسكر العمالة والخيانة ومعسكر الحرية، ونحن نعلن الانحياز للحرية ونستعد لدفع الثمن، فليكن هذا نداءً لكل حر ليصطف ويتميز.