" العبارة من نحت رشيق ومعبّر من طرف أستاذ علم الإجتماع المولدي لحمر اختزالا لدولة اسرائيل العنصرية الصهيونيّة " كتبت سابقا عن كتاب إدارة التوحّش لمؤلّفه أبو بكر ناجي " قيل اسم مستعار " لكنّه من قيادات تنظيم القاعدة وقد أثنى بن لادن على الكتاب ... ومن أكثر ما لفت انتباهي في الكتاب وهو يستعرض نماذج ناجحة قابلة للاحتذاء في إقامة الدّولة إحالته على الحركة الصّهيونيّة مستعرضا كيف انتقلت من مرحلة إدارة التوحّش إلى مرحلة إقامة دولة ...
والمقصود بإدارة التوحّش حالة الفوضى العارمة التي يتسبّب فيها انهيار السّلطة القائمة وعجزها عن الإيفاء بحاجيات النّاس الحيويّة الأمنيّة والاجتماعية المعاشيّة " الغذاء والدّواء ... " وحسب المؤلّف هذه الحالة من الانهيار الشّامل تتعلّق بنوعين من التوحّش:
الأوّل: طبيعي يعقب الحروب الأهليّة والانتفاضات الشعبيّة وحالات الفوضى المجتمعيّة التي تعقب ضعف السّلطة القائمة …
والثّاني: اصطناعيّ ويتعلّق بما تتعرّض له هذه السّلطة من نكاية وإنهاك من طرف من يستهدفونها لنسفها وخلق مناخات توحّش تدفع المتساكنين لتسليم زمام الحكم لأيّ جهة توفّر لهم الأمن والغذاء والدّواء ...
لا يتعلّق استحضار الكتاب في هذه التّدوينة بالبحث عن أوجه التّشابه بين قيام دولة الكيان الصّهيوني " داعص " وقيام دولة التنظيم " داعش "، بل بالوضع الرّاهن في غزّة، حيث تتجاوز في تقديري هستيريا القصف ونوع الأهداف المدنيّة في الغالب مجرّد التشفّي والانتقام الوارد في أحد ركني التّوحيش تحت عنوان شوكة النّكاية، بل المقصود منه الرّكن الثّاني وهو الإنهاك الذي يهدف إلى إثقال كاهل السّلطة القائمة بأعباء اجتماعيّة تعجز عن الإيفاء بها وخلق مناخات فوضى وتوحّش لفتح الباب لمرحلة إدارة توحّش تغيّر المشهد لصالح وكلاء الكيان عن طريق حاكم جديد وسلطة جديدة بصدد التّشكيل ...
الكيان الصّهيوني الذي كان نموذجا ناجحا لإدارة توحّش نقلت منظوريه من عصابات إجراميّة وشذّاذ آفاق إلى دولة احتلال أشاد بها صاحب كتاب إدارة التوحّش، يعمل اليوم على توحيش المنطقة بتدمير مقدّراتها وخنقها وقطع خطّ الإمداد عليها وضرب طاقتها على الصّمود ... وذلك بتطويقها ومحاصرتها بالمستوطنات وقطعان المستوطنين في مناطق الدّاخل وراء الخطّ الأخضر أو القدس ، أو احتوائها داخل تعاقدات المخلّة ترهن معاشها لرأس المال الصّهيوني وإدارة الكيان ومؤسّساته مثل ما وقع في الضّفّة منذ اتفاقيّة أوسلو ، أو التّدمير الذي يقع حاليّا في غزّة من خلال القصف المباشر وما سبقه من سياسات ممنهجة للنكاية والإنهاك على امتداد سنوات ...
هذه خطّة الكيان التي يقابلها صمود سلطة المقاومة الذي يستمدّ بقاءه واستمراره من بعض جيوب الإمداد التي تنفتح وتضيق ... لذلك كان أفضل سبيل للمقاومة تصدير المعركة إلى عمق الكيان المحتلّ وتحمّل عبء الضّريبة الإنسانيّة والاجتماعيّة الثّقيلة ... لتغيير المعادلة:
" توازن الرّعب رغم عدم توازن العتاد والموارد لكن الجغرافيا خاصرة رخوة تقلّص فجوة التّفاوت وتمكّن من : رفع الحصار عن القدس والأقصى حتّى لا تنفرد شرطة الاحتلال والمستوطنون بأهلها ويكرّسوا عزلها وفكّ ارتباطها بباقي المناطق المحتلّة على غرار منع مشاركتها في الانتخابات / استعادة فلسطينيّي الدّاخل بعد السياسات الفاشلة لاستلحقائهم وتذويب هويّتهم في النسيج الاستيطاني الذي يخنق قراهم ومدنهم حتّى أصبحوا أقليّات مشتّتة في أرضهم / تحريك ضمير الضفّة المثقلة بمخلفات أوسلو " دون ذلك سيتحوّل الفلسطينيّون تدريجيّا إلى هنود حمر العرب وغوييم التوراة …
إفشال سياسة النّكاية والإنهاك والتّوحيش كان يقتضي اختراق ما سمّي بالقبّة الحديديّة أو المظلّة الأمنيّة التي تعتبرها دولة الاحتلال فخر الدفاعات الإسرائيلية وجعلت منها سرديّة ضامنة لا فقط لأمنها القومي، بل لاستمرار الدّولة وسياسة التّوطين ...
نتائج هذا الخيار يتجاوز توازن الرّعب إلى توازن الألم " وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " النّساء (104)