ثمّة مفارقة تكتنف أيّ كلام فلسفيّ أو حتى أدبيّ أو ثقافيّ حول "القدس" لا يريد أن يبقى انفعالا محلّياً أو هوويّا فقط: إنّ الأوروبيين والغربيين بعامة لا يعرفون "القدس" بل يتحدّثون عن "أورشليم"؛ و"نحن" العرب والمسلمون لا نعرف "أورشليم" بل نفكّر في "القدس". وهذا بدوره وضعٌ تأويلي مخصوص يكشف عن فرق آخر لا يقلّ خطورة نظريّة في طرح قضيّة الانتماء: إنّ أورشليم هي موضوعة لاهوتيّة وأدبيّة وفلسفيّة ورومانسيّة وسينمائيّة متواترة في كتابات مؤلّفين غربيين، مسيحيين ويهود متديّنين وعلمانيين، كلّا على حدة، منذ القرن السابع عشر إلى اليوم؛
أمّا القدس فهي مدينة تاريخية ودينيّة وسياسية يعيش فيها سكّان عرب ومسلمون ومسيحيون ويهود حقيقيون منذ سنة 637 م بعد معركة بين الخلافة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية. نحن نفكّر في مدينة محتلّة وهم ينتسبون إلى ذاكرة سرديّة. ولذلك فإنّ البحث الفلسفي في دلالة القدس بالنسبة إلينا أو بالنسبة إلى الجزء غير الغربي من الإنسانية الحالية، هو يمرّ حتما بالفحص عن دلالة أورشليم بالنسبة إلى الأوروبيين والغربيين المحدثين والمعاصرين وحتى ما بعد المحدثين.
إنّ علينا أن نؤرّخ جيّدا لجملة أنماط الاهتمام الغربي بفكرة أورشليم حتى ندخل في طرح أسئلة عميقة حول معنى القدس بالنسبة إلينا.
لقد انخرط الفلاسفة الأوروبيون طيلة القرن السابع عشر (من قبيل ديكارت وهوبس وليبنتز) في بناء عقلانيات كبرى ترفع دور "العقل" بمجرّده (بعيدا عن أيّ سلطة أخرى) إلى رتبة براديغم الذات المحضة التي لا تحتاج في تفكيرها إلى أكثر من تبنّي نمط البحث عن الحقيقة الذي في العلوم الرياضية والفزيائية. لكنّ القرن الثامن عشر كشف عن أنّ التنفيذ التاريخي لهذه العقلانية الكبرى يحتاج إلى وضع برنامج ثقافي للتنوير بعامة، ومن ثمّ يحتاج إلى مصادر تشريع معياريّ وأخلاقي ينبغي استقاؤها من التراث الغربي نفسه.
ومن ثمّ التفت الفلاسفة إلى التراث العقلاني اليوناني باعتباره يستطيع توفير أدوات التبرير المعياري والأخلاقي الذي تحتاجه الحداثة بعد أن قطعت شوطا في علمنة القيم المسيحية وتحوّلت إلى خطاب يعتبر فكرة التقدّم هي غاية التاريخ الإنساني. وكانت خطّة الحداثة الفلسفية، المتموقعة في فكرة العقل/الذات والمتأسّسة على وعود التقدّم التقني والأخلاقي، تقتضي اختزال مكوّنات "الإنسانية الأوربية" (حسب تعبير هوسرل) في عنصر واحد ووحيد هو المكوّن اليوناني-الروماني. وفجأة تحوّلت مدن رمزية قديمة مثل "أثينا" و"روما" إلى أيقونات سردية ونماذج أخلاقية ومصادر معيارية لإعادة بناء الذات الأوروبية الكبرى.
وذلك كان هو برنامج التنوير الغربي الذي استعمل أيضا، إلى جانب الترسانة المفاهيمية للعقلانية اليونانية، ترسانة أخرى من الاستعارات الجغرافية التي تؤدّي دور "الشخصيات المفهومية"(حسب مصطلح جيل دولوز) من خلال أسماء مدن ذات رمزيّة عالية في تحقيب الذاكرة العميقة للأوروبيين.
إلاّ أنّه في هذه الأثناء قد ظهر فلاسفة أوروبيون وخاصة في أواخر القرن الثامن عشر وجدوا أنّه من الممكن وربما من الضروري تطوير استعارات جغرافية جديدة وغير يونانية من أجل تعميق وتأصيل الانتماء إلى المصادر العميقة للذات الأوربية التي بلغت عندئذ قدرا هائلا من "المعيارية الذاتية" (حسب تعبير هابرماس).
وهنا بدلا من مواصلة الانخراط في براديغم التنوير القائم على روما مجازيّة وأثينا استعارية لإرساء فلسفة تاريخ مناسبة للأزمنة الحديثة، تمّ البحث عن مصادر أصلية أخرى، وفي هذا السياق ظهرت الحاجة الرمزية والتخييلية لاستعارة "أورشليم" وتمّ استدعاؤها بأنحاء شتى من أجل لعب دور معياري وتأصيلي منافس أو معاضد لاستعارات التنوير الأخرى، لاسيّما روما وأثينا.
وعلى الرغم من أنّ ملامح اختراع علاقة سرديّة أو أدبيّة "حديثة"، أي أوروبيّة معلمنة، مع "أورشليم" هي قد ازدهرت من خلال كتب الرحلات منذ النصف الثاني من القرن السابع، بعد انحسار المدّ العثماني ، واستمرّت إلى اليوم تحت مسمّيات عدّة من الرحلة الدينية إلى الرحلة الأدبية إلى الرحلة العلمية، - فإنّ الحدث الفلسفي الذي لابدّ من ذكره هنا هو كتاب الفيلسوف اليهودي الألماني موسى مندلسون (1729-1786) والذي كان عنوانه هو "أورشليم أو حول السلطة الدينيّة واليهودية" ، والمنشور سنة 1783.
بيد أنّه لا ينبغي أن يغرّنا العنوان هنا، فهو لا يهمّ القدس التاريخية، بل أورشليم بوصفها رمزا أو شخصية مفهوميّة يمكن أن تساعد اللعبة اللغوية الجديدة التي طبعت القرن الثامن عشر الأوروبي تحت عنوان "التنوير" حسب أسمائه في اللغات القومية الأوربية (Aufklärung, Lumières, Enlightenment, l’illuminismo…)، وذلك على بلورة سياق نقدي وعقلاني لمعالجة المشاكل التي أثارتها الحداثة بشكل غير مسبوق. ومنها بالأساس، كما يشير إلى ذلك عنوان كتاب مندلسون، قضية الفصل بين الدين والدولة. وهو قد عالج هذه القضية في إطار مبحث عن السلطة الدينية وحرية الضمير، كما ارتسمه هوبس وسبينوزا ولوك (القسم 1)، ولكن خاصة هو قد ناقش اليهودية في نطاق السؤال عن الدور الجديد (العلماني) لأيّ دين في ظلّ دولة حديثة مستنيرة (القسم2).
وبالتالي فإنّ تنشيط اسم أورشليم كان بغرض أسلوبي محض يهدف إلى تأكيد إمكانية إنجاز "تنوير يهودي" على تربة أوروبا نفسها وفي سياق برنامج التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، وهو ما أُطلق عليه بالعبرية اسم "هسكلاه" (بالمعنى الحرفي "الحكمة" أو "التعقّل" من "سخل" بالعبرية أي "العقل") ويسمّى أعضاؤها "المسكليم" (Maskilim)، وكان تنويرا مركّزا على حركة اندماج اليهود في المجتمعات العلمانية الأوروبية، وهي حركة استمرّت إلى حدّ عام 1880. وهي ظاهرة ربما تشبه حركة الإصلاح والنهضة في التنوير لعربي المعاصر.
وكان فوكو في أحد دروسه الأخيرة ("ما هو عصر التنوير؟") قد أشار إلى أنّ ما كان يطمح إليه التنوير اليهودي كما عبّر عنه مندلسون هو خاصة إثبات الاعتراف بأنّ التنوير الألماني (die Aufklärung) والتنوير اليهودي (die Haskala) هما "ينتميان إلى تاريخ واحد ويحاولان أن يحدّدا من أيّ مسار هما ينبثقان". كان مندلسون يريد بلورة يهودية مستنيرة، علمانية، ذات نزعة كونية وترفض أيّ فكرة شمولية. وبهذا المعنى هو قد استدعى اسم أورشليم استدعاءًا تنويريا ولا علاقة له بأيّ أطماع تاريخية في مدينة القدس. كان عصر التنوير قد دمّر العلاقة الحنينيّة بالمكان من خلال تطوير قيم الانتماء الكسموبوليطقي إلى العالم وفكرة المواطنة العالمية كما دافع عنها كانط.
وفي هذا السياق الحداثي المستنير اعتبر هيغل، ضمن دروسه في فلسفة التاريخ (ما بين 1822 و1830)، أنّ الله اللامتناهي لا يمكن أن ينتمي إلى مكان محسوس ومتعيّن من قبيل "الأرض المقدّسة". قال:" إنّ قبر المسيح هو فارغ بلا رجعة". بل يجب أن يُقال للمحدثين كما قيل للحواريين صباح يوم انبعاث المسيح:" لا ينبغي أن تبحثوا عن مبدأ ديانتكم في المحسوس، في القبر، في الموتى، بل في الروح الحيّ، في ذات أنفسكم". وحسب هيغل، لا ينبغي أن نبحث عن الله أو عن اللامتناهي في مكان ما بوصفه "هذا" أو "ذاك" الموضع المتعيّن؛ لا ينبغي البحث عن الله في كنيسة القيامة، بل في مبدأ الذاتيّة الإنسانية. قال:" في كنيسة القيامة أخذ الغرب من الشرق عطلة أبديّة وهناك فهمَ مبدأه عن الحرية الذاتية اللامتناهية. ومنذ ذلك الوقت لم يعد يمكن للمسيحية أن تقدّم نفسها بوصفها كلاّ شموليّا (Totalität)".
أين يجب على الأوروبيين أن يبحثوا إذن عن دلالة أورشليم؟
بعد انحسار المدّ التنويري انخرط الرومانسيون، من فلاسفة وشعراء وأدباء (هيغل، شليغل، شيلنغ، كيركغارد) ، في إعادة اكتشاف النصوص المسيحية بطريقة مرعبة. وقد تزامن ذلك بوجه ما مع دخول الحداثة أكثر فأكثر في أزمة مع مصادر ذاتها. وبقدر ما انحسر نموذج الفيلسوف/ العالم أخذ نموذج المؤلف/النبيّ يعود إلى الخدمة بشكل مثير. وهو ما سوف يجد هالته العليا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في كتاب نيشته "هكذا تحدّث زرادشت"، وبلغ إلى الثقافة العربية في كتابات جبران ونعيمة.
وفي قلب هذا المدّ الرومانسي الذي طبع الفلسفة الأوربية من تسعينات القرن الثامن عشر إلى خمسينات القرن التاسع عشر، طوّر الفيلسوف الألماني شيلنغ تأويلات رشيقة لدلالة أورشليم، هي تضيف للدلالة الأدبية والتنويرية السابقة دلالة أخرى من نوع طريف. هو يسمّيها الدلالة "ما بعد التاريخية". قال في كتابه "فلسفة الوحي":
"إنّ يوحنّا هو حواريّ كنيسة المستقبل، العالميّة حقّا، أورشليم الثانية والجديدة، تلك التي رآها تنزل من السماء،مدينة الله حيث لا يُستبعَد أحد، ويدخلها الوثنيون واليهود على حدّ سواء، ومن دون حدود مقيّدة، ومن دون سلطة خارجية من أيّ نوع، وتبقى هي بذاتها، لأنّ الكلّ يأتي إليها بحرّية، والكلّ ينتمي إليها بمحض قناعته الخاصة، وذلك من جهة أنّ روحه قد وجدت فيها وطناً".
كان شيلنغ يعرف كتاب مندلسون المشار إليه ويحيل عليه. لكنّه لا يستعمل أورشليم لأغراض تنويرية بل في نطاق إشكالية أخرى. هي تلك التي تهدف إلى تملّك الدلالة الإنجيلية التي أخذتها أورشليم في سفر الرؤيا، في سفر يوحنّا. وإنّه من المفيد جدّا أن نذكّر بملامح أورشليم الإنجيلية حتى نفهم طرافة التخريج الذي اقترحه شيلنغ.
إذْ نحن نعثر في نصوص المسيحية الأولى على موقعين حاسمين لتحديد دلالة أورشليم المقصودة، ألا وهما "سفر رؤيا يوحنّا" (الإصحاح 21: 2 و 19-23) . ورسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية (الإصحاح 4: 25-26) . وما يهمّنا هنا هو أنّ شيلنغ قد احتفظ بالدلالة الحاسمة التي نسبها يوحنّا إلى أورشليم: إنّها "أورشليم الجديدة" وليس المدينة القديمة؛ وهي مدينة مقدّسة لأنّها مدينة "الرؤيا" وليس مدينة الواقع، إنّها مدينة "تنزل من السماء" ولا يمكن ادّعاء ملكيتها لأحد، بل هي "مسكن الله" ولا مسكن لله إلاّ الأبديّة. ولذلك فإنّ الاهتمام الروحي بأرشليم هو كما قال هيغل نوع من "العطلة الأبدية" التي أخذها الغرب من الشرق. وبهذا المعنى عليها أن نقرأ ما جاء من تمييز حاسم بين "أورشليم السماوية" التي أشار إليها سفر الرؤيا و"أورشليم الحاضرة" التي تشير إليها رسالة بولس إلى أهل غلاطية والتي تعرّض إليها هيدغر بالتأويل في أحد دروسه (الطبعة الكاملة، مج 60، 71).
كيف يجدر بنا أن نفهم تمييز بولس بين "أورشليم الحاضرة"(أورشليم هاجر وأورشليم العرب) و "أورشليم العليا" أو أورشليم "بالموعد" (أورشليم سارّة وأورشليم إسحاق ونسله)؛ أو نفهم تمييز يوحنّا بين "أورشليم الجديدة" (المدينة المقدسة، النازلة من السماء، مدينة الملكوت أو مدينة الآخرة، ) وأورشليم الأرضية (والتي لا يتكلّم عنها ولا يقصدها)؟ - يبدو أنّ ثمّة طريقة واحدة لحسم هذا الأمر: إنّه إثبات الفرق الجوهري بين "القدس" و"أورشليم".- إنّ القدس لا يمكن أن تكون من خلال أقوال بولس الرسول ويوحنّا سوى "أورشليم الحاضرة" أو الأرضية، نعني أورشليم هاجر أو أبنائها؛ أمّا أورشليم التي يتحدّث عنها مندلسون أو شيلنغ فهي لا يمكن أن تكون القدس بل أورشليم سارّة أو "أورشليم السماوية" أو "أورشليم العليا" أو "أورشليم الجديدة"، نعني أورشليم "بالموعد" أو أورشليم الرمزيّة.
وإنّ كلّ دلالات "أورشليم" في النصوص الفلسفية والأدبية الأوربية الحديثة إلى حدّ أواسط القرن التاسع عشر (إذْ تعود دروس فلسفة الوحي التي ألقاها شيلنغ إلى سنوات 1841-1846، وهو قد توفّي سنة 1854) هي بالأساس دلالات رومانسية أو رمزيّة لا يُراد منها سوى تعضيد خطاب التقدّم (العلماني الذي يجد جذوره البعيدة في تراث روما/ أثينا) الذي قامت عليه الحداثة (بما هي تجربة معنى تأسّست على علمنة جذرية للقيم المسيحية) بخطاب آخر غير تنويري وجد في فلسفات التاريخ مجالا خصبا لتطوير حواسّ غير رومانية وغير يونانية لأنّها تنبع من مصادر إلهام غير أوربية أصلا، بعضها إنجيلي(شيلنغ) وبعضها إسلامي (غوته، هيغل) والبعض الآخر هندي (شوبنهاور، ماركس، نيتشه)، أو آسيوي (جوزاف غوبينو)، الخ…
لكنّ ما وقع في أعماق القرن التاسع عشر هو تعمّق فشل برنامج التنوير القائم على رمزية روما وأثينا، وتحوّل الحداثة إلى آلة استعمارية، وتغوّل الذات الأوروبية، الذات المسيحية المعلمنة، وانقلابها إلى جلاّد عالميّ للأقليّات والجماعات وكلّ أنواع "الآخر" أكان داخليّا، مثل اليهود، أو خارجيّا، مثل المسلمين والبوذيين، والأفارقة، وبقية الشعوب، والديانات. – وإنّه في سياق أزمة برنامج الحداثة هذا إنّما ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نزعة ثقافيّة ونقديّة وعرقيّة عُرفت تحت مسمّى "معاداة السامية" (Antisemitismus)، وهو مصطلح نحته صحافي ألماني يُدعى وليام مار وذلك سنة 1879 في كتاب معاد لليهود بمجرّدهم (وليس للسامين بعامة) عنوانه "انتصار اليهودية على الجرمانيّة منظرا إليه من وجهة نظر غير عقديّة". وإنّ معاداة السامية أو اليهود هي تقف في الجانب الأقصى من العلاقة الأدبية أو التنويرية أو الرومانسية مع أورشليم، تلك التي تطوّرت على مدى القرون السابقة.
وكانت ردّة الفعل هنا هي استدعاء رمزية أورشليم إلى سردية تأسيسية من نوع جديد، تختلف عن أدوارها السابقة لدى الرحالة (الأدباء) في القرن السابع عشر أو لدى مندلسون (التنويري) في القرن الثامن عشر أو لدى شيلنغ (الرومانسي) في النصف الأول من القرن التاسع عشر. إنّ صورة أورشليم هي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين قد صارت مرسومة من خلال نموذج سردي جديد عبّر عن نفسه بشكل عام في صيغة شهيرة اليوم بين الفلاسفة تقوم على التقابل المتكامل بين رمزين روحيين جغرافيين، ألا وهما "أثينا وأروشليم". وهي صيغة اصطلاحية جرت تحت أقلام فلاسفة كبار من حجم ليو شتراوس وحنا أرندت وإيمانويل ليفناس.
أمّا من ناحية تاريخ المصطلحات فإنّ علينا أن نذكر بأنّ التمييز الرمزي، في نطاق النقاش حول أزمة الحداثة الأوروبية، بين طريق أثينا وطريق أورشليم نحو الحقيقة، إنّما توجد صيغة قويّة عنه في كتاب يعود إلى نفس تاريخ ظهور معاداة السامية. فقد ظهر سنة 1869 كتاب عنوانه الثقافة والفوضى لكاتب اسمه ماتيو أرنولد، وجعل عنوانا لأحد فصوله عبارة "Hellinism and Hebraism" (الهلّينية والعبريّة)، وعقد فيه مقارنة أخلاقية مفصّلة بين المفهومين على أساس التعارض المعياري الأساسي بين مصدرين عميقين للحداثة الأوربية وللغرب بعامة هما التراث الهلّيني أو اليوناني، من جهة، والتراث العبراني أو الإبراهيمي، من جهة أخرى، باعتباره هو وحده العلاج المناسب لأزمة "الثقافة" في أوروبا.
وفي مجرى هذا التمشّي الجديد تمّ ترسيخ الدور المعياري غير التنويري وغير الرومانسي لرمزية أورشليم وبدأ التأسيس الفلسفي لها من أجل كسب معركة الانتماء إلى الغرب من داخل مكوّناته الهوويّة، وليس فقط من خلال تملّك قيمه الحداثية. وفي هذا الإطار ظهرت كتب طريفة من قبيل كتاب ليون دوريسون ودافيد برمان "أورشليم الفلاسفة" المنشور سنة 1922، وكتاب ليو شيستوف "أثينا وأورشليم: محاولة في الفلسفة الدينية" والذي ظهر سنة 1938، وخاصة مقالة ليو شترواس "أورشليم وأثينا: بعض التأمّلات التمهيدية"، والذي ظهر سنة 1967. ثمّ بعد ذلك انهالت الكتاب والمقالات التي تحمل عنوان التقابل "بين أثنيا وأورشليم" بوصفه ضربا من النموذج الرمزي والسردي والإشكالي لطرح قضيّة ازدواجيّة الأصل الذي تأتّى منه التقليد الغربي بعامة.
يقول ليو شتراوس جامعا كلاّ ملامح هذا النموذج في مفتتح مقالته: "إنّ كلّ الآمال التي تحدونا في وسط الارتباك والأخطار المحدقة بالزمن الحاضر إنّما تجد أساسها، إيجابا أو سلبا، في تجارب الماضي. وإنّ التجربة الأوسع نطاقا والأكثر عمقاً من بين هذه التجارب- وذلك بقدر ما تهمّ الإنسان الغربي- هي ما تشير إليه أسماء المدينتين التاليتين: أورشليم وأثينا. لقد أصبح الإنسان الغربي ما هو، وهو الآن ما هو، عبر الانبثاق المشترك للإيمان الكتابي والتفكير اليوناني. ومن أجل أن نفهم أنفسنا وأن نضيء طريقنا المجهول نحو المستقبل، يجب علينا أن نفهم أورشليم وأثينا. ولا نحتاج إلى القول بأنّ هذه مهمّة تتطلّب أداءًا خاصّا يتجاوز قدراتي؛ لكنّنا لا نستطيع أن نحدّد مهامّنا من خلال قدراتنا، لأنّ قدراتنا لا تصبح معروفة لدينا إلاّ متى أدّينا مهامّنا، وإنّه من الأحسن أن نفشل بنبلٍ على أن ننجح بدناءة."
تبدو الدلالة الفلسفة لاسم أورشليم في النقاشات المعاصرة (وربما ذلك منذ كيركغارد كما استعمله ليو شيستوف) بوصفها تعود إلى تنشيط ثنائيّة رمزيّة قويّة، ألا وهي ثنائيّة سقراط من جهة وإبراهيم من جهة أخرى. سقراط وإبراهيم هما هنا شخصيّتان مفهوميّتان وأدبيّتان وليس شخصين تاريخيين. - ولذلك يبدو أنّ لغز الفرق بين القدس وأورشليم في أفق الإنسانية، وبقدر ما نريد أن ننتمي إليها، وليس إلى دين دون آخر، إنّما ينبغي البحث عنه في شخصية إبراهيم، الأب المتعدد والذي يلقي بهالته الروحية على الجميع.
إنّ إبراهيم هو العنوان ما بعد التاريخي الوحيد الذي يمكنه أن ينظّم شكل أو محتوى الانتماء إلى القدس العربية أو إلى أورشليم التوراتية-الإنجيلية، بين الانتماء إلى المدينة العربية الفلسطينية أو الانتماء إلى الذاكرة المجروحة للإنسان الغربي في لحظة البحث عن علاج لأزمة الحداثة في جغرافية الروح. ولكن مع التأكيد الصريح على أنّ أورشليم إنّما تبقى مسألة غربية أو تهمّ هويّة "الإنسان الغربي" بما هو كذلك ولا تهمّ "المقدسيين" التاريخين، الذين ينتمون إلى القدس انتماءًا تاريخيّا ويعيشون حياهم مثل بقية شعوب الأرض على أرضهم.