عقيدة الضاحية كانت العنوان لإحدى الاستراتيجيات التي استنبطها الجيش الاسرائيلي لمواجهة أعدائه إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006. تقوم هذه الاستراتيجيا حسب عرابها "غادي ايزنكوت" على تفعيل قوة نار غير مكافئة وغير متناسبة مع "مصدر التهديد". بالنسبة لآيزنكوت القرى والبلدات التي تنطلق منها الصواريخ يجب ان تدمر وتسوى بالأرض لأنه، ووفقا لهذه العقيدة العسكرية الإسرائيلية، يجب تدمير القاعدة الشعبية لمصدر التهديد وتدفيع هذه الحاضنة ثمن خيارات القيادة.
خلص آيزنكوت إلى الإقرار بضرورة تفعيل القدرة التدميرية للجيش الإسرائيلي وتقصير أمد الحرب وهو ما لم يحصل خلال حرب تموز حيث طالت الحرب لأكثر من شهر ولم يقدر الإسرائيليون على الحد من سقوط الصواريخ على مستوطنات الشمال. دعا آيزنكوت الى عدم الإكتراث بردة فعل المجتمع الدولي حين استعرض هذه الاستراتيجيا وهو ما يعكس عنجهية القيادة الإسرائيلية وحقيقة هذه الدولة المزعومة.
في هذا السياق يبرز مفهوم الحروب الخاطفة، وهي تلك الحروب التي لا تمتد على فترات زمنية طويلة، أو ما يسميه الإسرائيليون ب"الأيام القتالية". تحبذ إسرائيل هذا النوع من المواجهات، حيث تقوم بتدمير بنك أهداف موضوع مسبقا، وتصفية قيادات كانت قد وضعتهم على قائمة الاغتيال منذ زمن لتستفيد بذلك من تفوقها الجوي والتكنولوجي وتسوق لجمهور مستوطنيها أكذوبة تحييد التهديدات ونعيم الهدنة طويلة الأمد.
هذه العقيدة العسكرية التدميرية، وحين حاولت إسرائيل تفعيلها أثبتت فشلها اذ اصطدمت بواقع ميداني كان على درجة عالية من التعقيد أصبحت بموجبه هذه العقيدة طي النسيان.
مع كل عدوان تخوضه إسرائيل على قطاع غزة أظهرت هذه العقيدة مكامن الضعف ميدانيا، خاصة أثناء عدوان 2014 حين عجز سلاح الجو الإسرائيلي عن تحقيق إنجاز ميداني، ثم اضطرت القيادة العسكرية لإعلان الحرب البرية على القطاع لتمنى بهزيمة تاريخية آنذاك وتنكسر ألوية جولاني وجفعاتي على أعتاب القطاع المحاصر.
يأتي اليوم أفيف كوخافي رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية ليسحب هذه الاستراتيجية من الأدراج التي علاها الغبار، وليقلب دفتر آيزنكوت البالي طمعا في إنجاز عسكري يخرج به جيشه من الورطة التي وضع فيها، ما يدل على إفلاس وعقم عسكري للجيش الإسرائيلي.
لكن هذه الاستراتيجيا أثبتت مرة أخرى فشلها وعجزها عن التكيف مع وقائع الميدان، فرغم حمم اللهب التي تصبها الطائرات الإسرائيلية على رؤوس ساكني القطاع ورغم القدرة التدميرية الهائلة للأسلحة المستعملة ورغم تركيز القصف وتكثيفه في فترات زمنية قصيرة إلا أن الفشل واضح لا تخفيه الأكاذيب التي يبثها ناتنياهو لجبهته الداخلية.
بعد أسبوع من العدوان، لم تنجح هذه الاستراتيجيا في النيل من عزيمة أهل القطاع، ولم تنجح في إيقاف إنطلاق الصواريخ الذي يأخذ منحى تصاعديا كما ونوعا وتوسع مداها ليغطي المجال الحيوي للكيان، تل أبيب وما حولها، هذا إضافة إلى دخول 70% من المستوطنين إلى الملاجئ.
ورغم التباين في القدرات العسكرية إلا أن غزة نجحت في ترسيخ توازن رعب مع الجيش الأقوى في المنطقة. ورغم أن الضرر المادي الذي تحدثه صواريخ القطاع أقل بكثير مما تحدثه صواريخ الكيان، إلا أنها كفيلة بأن تقذف الرعب في قلوب مستوطنيه، كفيلة بأن تميتهم ألف مرة في اليوم، كفيلة بأن تقنعهم أن تذكرة مغادرتهم بلا عودة أقرب لهم من حلم التعمير فوق أرض افتكوها غصبا من أهلها.
هذه الصواريخ تساهم في كي وعيهم... هي تؤكد للقادة الإسرائيليين، لخبراء الأمن والعسكر، لمراكز دراساتهم، تؤكد أن كل الاستراتيجيات التي سهروا على ابتكارها وبلورتها في مواجهة غزة قد فشلت...وهي تفضح وهم أنظمة الدفاع الجوي التي حشدوها ظنا منهم أنها ستحميهم، فلم تنفعهم لا قبة حديدية ولا عصى سحرية ولا مقلاع داوود..
مادام هنالك مستوطن يهرول نحو الملجأ وآخر يبكي وهو منبطح على الرصيف، مادامت الرشقات تنطلق ومادامت الراجمات حبلى بالمفاجآت، فإن هذا العدو يخسر والمعادلات تتغير لصالح مستضعفي تلك الأرض الذين بنوا بسواعدهم عالمهم، عالما مفارقا لعالمنا، فيه ريح نبوة ووحي عز وصبر وتصميم، عالم لا يهنأ فيه الظالمون، عالم لا يرتاح فيه الغزاة لحظة واحدة.