لقد كان الفقيد احمد المستيري في قلب الحراك السياسي الذي عرفته فترة السبعينات في تونس وكان بحق ابا الحراك الديمقراطي المعارض قبل ان يعتزل السياسة في فترة متقدمة نسبيا لأسباب تحتاج الى بحث خاص.
اتسم نظام بورقيبة منذ الاستقلال بالانغلاق والتسلط ولئن اتخذت بعض خطب بورقيبة نفسا تعليميّا بيداغوجيّا أحيانا إلاّ أنّه كان يكثر الحديث في خطبه وتوجيهاته عن استعمال القوّة والضرب بدون رحمة أو شفقة وضرب العنق إن لزم الأمر. بل إنّ بورقيبة كان كثيرا ما يصف أعداء الدولة بالمفسدين ويعلن بشكل صريح استعداده كرجل دولة لاستعمال مختلف أنواع القوّة. والقوّة في هذا السياق يقصد بها العنف كأداة مميّزة للدولة. ففي خطاب يتعلّق بولاية القيروان التي مثّلت نوعا من المعارضة الدينيّة لسياسة بورقيبة يقول: «لست مستعدّا للتقصير في الدفاع عن النظام ولن أترك الأمور تجري على عواهنها وسأواجه المفسدين بلا شفقة ولا رحمة وأضرب على أيدي الذين ثبت عداؤهم للدولة».
هذا الانغلاق وفشل سياسة التعاضد في الستينات وما آلت إليه من محاكمات (محاكمة أحمد بن صالح بعد تجربة التعاضد سنة 1970) أدّيا إلى تململ من داخل الحزب الحاكم (الحزب الاشتراكي الدستوري) نفسه الذي فقد توازنه. فقد بادرت مجموعة من الشخصيّات الدستوريّة بتوجيه نقد مباشر لنظام الحزب الواحد وذلك في بيان صادر في 10 سبتمبر 1974 وقعه كلّ من أحمد المستيري والباجي قائد السبسي وحسيب بن عمّار ومحمد صالح بلحاج والصادق جمعة ومحمد بن عمارة ومحمد مواعدة والحبيب بولعراس.
وبالرغم من أنّ النظام قد رفض في البداية التفاعل الإيجابي مع المبادرة المذكورة وخيّر تفاعلا سلبيّا فأعطى الرئاسة مدى الحياة لبورقيبة في 1975 ورفت من عضويّة اللجنة المركزيّة للحزب كلّ الشخصيات التي وقّعت على بيان 10 سبتمبر 1974. إلاّ أنّه سرعان ما تراجع وقبل التواصل مع الشقّ الخارج عن صفوفه.
في هذا السياق وفي سنة 1976، أعلنت مجموعة الديمقراطيّين الاشتراكيّين عن رغبتها في إصدار صحيفتي «الرأي» «والديمقراطيّة». ولكنّها لم تحصل على التأشيرة إلاّ في ديسمبر1977. كما تمّ الإعلان عن تأسيس الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان في 1977 واستقبل بورقيبة أحمد المستيري يوم 13 أكتوبر 1979.
بعد انفصال المجموعة المذكورة عن الحزب الحاكم، تواصلت عمليّة الانفصال، ولكن صلب المجموعة ذاتها فقد حصل خلاف في جوان 1978 داخلها حول الخطوط العريضة والإطار السياسي الذي ستنضوي فيه هذه المجموعة وأدّى هذا الخلاف إلى انفصال أحمد المستيري ومحمد مواعدة اللذين اسسا حزب الاشتراكيّين الديمقراطيّين في جوان 1978. وتولى المستيري أمانته العامة في حين ظلّت الرأي ناطقة باسم حسيب بن عمّار والباجي قائد السبسي وانفرد هذا الشقّ بإصدار هذه الجريدة منذ 12 أفريل 1979. أمّا الشقّ الثاني الذي أسّس الحزب الجديد بزعامة أحمد المستيري فقد أصدر جريدة المستقبل باللغة العربيّة ونظيرتها باللغة الفرنسيّة.
وفي عام 1981 شارك حزبه في أول انتخابات تعددية انتهت بالإعلان عن فوز ساحق للحزب الحاكم. وقد كشف أكثر من مسؤول فيما بعد أن تلك الانتخابات وقع تزويرها. في أفريل 1986، وقع إيقافه وسجنه ثم أخضع للإقامة الجبرية إثر مشاركته في مظاهرة منددة بالعدوان الامريكي على ليبيا. وانسحب طوعيا من الأمانة العامة لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ووضع حدا لكل نشاط سياسي.
رحمه الله الفقيد العزيز الذي خدم تونس بكل ما اوتي من ذكاء واخلاص وخرج من السياسة باكرا حين أحس انه لم يعد بمقدوره اي يقدم اكثر مما قدم …خرج صامتا بلا ضجيج بعد ان ملأ الدنيا وشغل الناس في أوج استبداد نظام بورقيبة وجبروته.
إلى روح المناضل أحمد المستيري التحية.