العسكريّون المتقاعدون من حقّهم أن يدلوا بآرائهم، مواطنين تونسيّين، ولا أحد يصادر رأي أحد في زمن الحرية والديمقراطيّة والتعدّد.. ولكن ليس بمثل هذه الفجاجة التي نقرأ على مواقع التواصل الاجتماعي من ضبّاط قدامى ضاق بهم تقاعدهم فنشروا سلعتهم على العالَمين كأنّهم عادوا بعد أن ربحوا الحرب بمهمّة تسوية شؤون السلم لعجز المدنيين عن تسيير شؤونهم بأنفسهم... ترى بعض الجنرالات المتقاعدين في تنافس محموم على كتابة البيانات كأنّهم قرّروا أن ينفلتوا انفلاتة واحدة بعد عمر من الانضباط طويل.
أنت، يا بابا، اسمك فلان الفلاني.. اكتب ما تشاء باسمك وعلّق صورتك.. ولكن لا معنى لنشر بيانك أو ندائك مشفوعا برتبتك العسكريّة وبزيّك الذي نزعته منذ تركت ثكنتك بعد أن أكملت عهدتك.. إنّك إذ تلوّح للناس بهما فكأنّك توجّه مدفعا إلى الصدور لإرهاب الناس وإرعابهم وفرض نفسك عليهم بقوّة السلاح مستغلّا تقدير الشعب للمؤسّسة التي تخرّجتَ منها لأنّها مؤسستهم التي يفاخرون بها ما دامت تؤدّي دورها كما يجب لها، لتحقيق مآرب تخصّك وحدك وربّما تبعث على الشكّ فيك وفي من يقف وراءك.
قد تكون عبقريّا في مجالك الذي تقاعدت منه بعد أن شبعت بالتحايا وبالتمجيد.. ولكن ليس من حقّك أن تستثمر مناخ حرية لم تكن تعرفه لكتم حرية غيرك بدعوى أنّك كنت صاحب رتبة عسكرية رفيعة.
نحن نحترم مؤسستنا وندعو سياسيينا إلى حسن إدارة صراعهم في ظلّ الدستور والقانون، ولكن بعيدا عن تخييلات السلاح التي نراها تلبية لأوهام رئيس الجمهورية الذي لمّا لم يجد استجابة من العسكريين المباشرين هرعتم إليه تعرضون عليه خدماتكم وتدعمونه بخبراتكم وقد علمتم أنه طرف في خصومة وليس حَكَمًا.. وهو لا يتخلّى منذ قعد على كرسيّه عن مغازلة القوى الحاملة للسلاح ليستدرجها حتّى يقود بها انقلابا عنيفا ضدّ مواطنين يخالفونه جعل منهم خصوما له وقرّر حمل السلاح عليهم.
البلاد التي خرج العسكر فيها من ثكناته ليدير الدولة فيها هي أكثر البلدان تخلّفا.. لأنّ السلطة العسكريّة سلطة مطلقة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
يدخلون بحجّة الخوف على البلاد ومحاربة الفساد وتحقيق الإصلاح بأسلوب التهويل للتخويف ولشلّ التفكير، حتّى إذا تمكّنوا لوَوا الأعناق وأخضعوا الرقاب ولبسوا ثوب الفساد وحدهم وجعلوا دون الإصلاح مسافات.. وأجّلوا للناس جميع آمالهم وقتّلوا الأحلام بلا شفقة.
العسكريّ إذا حكم اعتقل مشاعر الإشفاق وسجن معاني الرحمة وصادر الحريات بحجج لا يصدّقها العقلاء وإن خضعوا لها مرغَمين.
العسكري لا ثقة فيه إذا استعمل عسكريته لخوض السياسة مع الخائضين.. جميع الانقلابيين جاؤا شعوبهم بكلام معسول أوّل الأمر ثمّ عاثوا في بلداهم فسادا.. وأضاعوا الأوطان وخسروا الحروب وأطالوا أعمار حكمهم بما كانوا ينفقونه من وعيد لم يجِدّوا في تحقيقه لأنّ في تحقيقه نهايتهم.
ما شهدته الأمّة من الأنظمة العسكرية لا يقلّ في ضرره عن زمن الاحتلال الأجنبيّ.. الأجنبيّ ناهبُ للثروات قاتل والدكتاتور" الوطنيّ" قاتل ناهب للخيرات.. وذاكرة الشعوب العربية مع الجيوش التي استولت على السلطة في بلدانها سيّة جدّا.. العسكريّ إذا خالفتَه صرت إرهابيّا وجب تصفيته بالسلاح.. العسكر لا براعة لهم غير حماية الأوطان.. إذا أمّنوها اكتمل فضلهم.. وذلك حسبُهم.
تريد أن تنتميَ إلى النادي السياسي؟ كوّن لك حزبا سمّه ما شئت وانتدب له من شئت وأبدع برنامجه كما شئت.. انتظر الانتخابات فإذا فزت بأصوات الشعب دونك والحكم.. غير ذلك عدوان وزيف وادّعاء وكذب على الذقون.
المشير عبد الفتّاح السيسي أسمع المصريين كلاما كثيرا مثيرا ومنّاهم بجنّات عدن تجري تحتها الأنهار وقال قولته الشهيرة ((هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه)).. ولمّا نجح في انقلابه أحرق المصريين في الميادين وباع الجزر المصرية وفرّط في مياه النيل وأعاد مصر إلى الوراء دهورا.. العسكر في مصر جعلوا الدولة مزرعة لهم وتحوّلوا هم إلى تجّار يبيعون المصريين الهواء الذي يتنفّسونه.
لا تقل لي إنّك ضدّ استئصال أيّ طرف سياسيّ.. فأنت إذا أمّمتَ السياسة استأصلت الشعب كلّه.. وليس لك غير ذلك.. لأنّ الديمقراطية تقوم على الاعتراض وأنت لا تعرف غير "عُلم وينفَّذ" و"حاضر سيدي".. الشعب التونسي سيّد نفيه ولا يرضى بأحد سيّدًا عليه.. وقد حسم أمره وتوكّل على الحرية ليبلغ قصده ولو بعد حين بلا وصاية من أحد.
الزم مكانك.. أفضل للوطن.. ولك.