في الستينات، ظهرت موجة صناعية غريبة جعلت شركة فيات تسلم قوالب الكثير من سياراتها إلى الدول الفقيرة جنوب المتوسط بعد إشباع السوق الأوروبية، منها تركيا ومصر التي التحقت بها شركة بيجو الفرنسية، فولسفاغن راهنت على أمريكا اللاتينية، وهذا حدث أيضا من اليابان إلى كوريا الجنوبية وأندونسيا وماليزيا، فرنسا ردت على فيات بمنح قوالب رينو إلى تونس في رخص شركة STIA، التي طورت عملها لإنتاج الحافلات وغيرها، كان ذلك لأجل توسيع سوق السيارات: أن يصنع الفقراء سيارات سيئة بكلفة الفقراء لسوق الفقراء،
بعد حوالي نصف القرن، النتيجة أن كوريا الجنوبية طورت الاندماج الصناعي حتى أصبحت أحد الثلاثة الكبار في صناعة أحدث السيارات في العالم، تليها في الدول التي تلقت هذه القوالب تركيا التي انتقلت من مجرد تركيب فيات ثم رينو وبيجو إلى تصميم سياراتها تحت اسم "شاهين" واكتسحت بها آسيا الصغرى والكثير من الدول العربية وجموريات الاتحاد السوفياتي سابقا، ثم طورت صناعة السيارات والحافلات الكهربائية التركية حتى أنها تبيعها في ألمانيا مثلا، وصناعة السيارات في كوريا انتقلت سريعا إلى الصين والهند اللتين بدأتا بتقليد السيارات اليابانية، واحتاجتا وقتا أطول من كوريا الجنوبية لتحقيق الاستقلال الصناعي الكامل، لكن شركة طاطا الهندية مثلا، تعتبر أكبر صانع عربات في العالم بقطع النظر عن الجودة.
في مصر تطورت صناعة السيارات منذ نهاية الستينات في مصانع مدينة حلوان الحكومية لإنتاج نسخة مشوهة من سيارات فيات 1200 التعيسة وغيرها تحت اسم سيارات نصر الأكثر بؤسا وعطبا، ثم سيارات بيجو 504 وفولسفاغن كوكسينال، لكنها فشلت حقا في تحقيق أي طموح في تطوير سيارة عربية رغم توفر الكفاءة والسوق والتمويل، وحتى اليوم يمكن رؤية سيارات تاريخية في الطرق المصرية من فيات وبيجو وفولسفاغن كأنها صنعت اليوم، دون أي تطوير في منافسة غير عادلة مع السيارات الصينية والكورية، حتى أنه من الصعب بيعها خارج مصر،
رجعنا إلى تونس: تم حرمان الشركة التونسية لصناعة السيارات من أي برامج بحث أو تطوير أو اندماج صناعي ثم إعدامها بوقف الشراءات العمومية وتوريد السيارات والحافلات من نفس العلامة ودفعها إلى الإفلاس ثم بيعها "جثة صناعية" بأقل من قيمة الأرض. لكن السر في أنه لم يقع ربط شركات تركيب السيارات في أية دولة عربية بكليات الهندسية، كانت ثمة قطيعة تامة بين العلم والصناعة مع صفر استثمار في التطوير، على عكس كوريا وتركيا والهند، وهذا يفسر كل شيء،
المضحك: أكثر من 80% من سيارة فولسفاغن مثلا يصنع خارج ألمانيا، تحتفظ الشركة الأم لنفسها بالتقنيات الأحدث والأغلى ثمنا، وتترك الباقي الذي استرجعت منه كل مرابيحها منذ زمن للبلدان الأقل كلفة في الإنتاج، أساسا من أجل أسعار تنافسية، أوكي، ونحن، في تونس أين؟ وأين دول شمال إفريقيا ذات 100 مليون ساكن حيث تصنع سيارات رينو وبيجو وغيرها بكلفة إنتاج محلية وخبرة طويلة في التركيب لكنها تباع لنا بثمن أوروبي؟ هل ثمة أمل يوما في سيارة مغاربية إن لم نقل عربية في ظل قطع العلاقة بين مدارس الهندسة وشركات الصناعة وصفر للبحث العلمي؟ لا طبعا،
اسمع لغة القلم، عيش ولدي، قاله استثمار وصناعة وطنية
إن أحدا ما هنا استثار ذاكرتي المهنية بالقول: "خلينا من الكراهب وكان نبداوا نصنعوا البيسكلاتات"، أية بسكلات؟ فكلفة استيراد سلال الفضلات من تركيا وشكاكل شريط الغسيل وشموع عيد الميلاد وحكاكة ماعون الغسيل أقل كلفة وهرجا من صنعها في تونس، فما بالك ببسكلات صينية جيدة تباع بـ 250 د في المعدل، اش فيها صناعة البسكلات في تونس؟
في الأصل: 50 د على الأكثر مادة أولية وطاقة، 30 د يد عاملة وكلفة تسيير و30 د لشبكات التوزيع و40 دينار بين الضرائب وهامش الربح، يعني 150 دينار، لنعد إلى الواقع، لكي نضيف إليها 50 د مساهمة اجتماعية، 50 دينار لرخص وأوراق وحاكم واجتماعات ومشي وجي وتنابر وعلاقات عامة، 50 د مصاريف بنكية على أية حركة إيجابية أو سلبية للفلوس، أصبحت 300، 70 د ضرائب أخرى حكومية وبلدية،
بعدها دخلنا في العمل الحقيقي: 50 د على كل قطعة بين المعتمدية والولاية والجمعيات و"أفرح بيا هاك تخدم عاد" وخدموا معاكم حتى تلقوا ليه بلاصة، والأمور السياسية والمساهمة الاجتماعية للمؤسسة في محيطها الاجتماعي لكي تتفادى التعطيلات وإغلاق الطريق وان تراك متاعنا، أما لازم، 420 دينار للبسكلات التي تتكلف في الأصل 250 دينار، جيبها خويا من الصين وادفع عن كل بسكلات 50 د سمها ما شئت لفتح الطريق و50 د للباعة، 350 د والباقي لك فيه الشفاء والهناء، لا هرج ولا رخص ولا ولاية ولا تشغيل ولا ضمان اجتماعي، "خرجت البسكلاتات" (يعني بعتها)؟ دورها ريشوات غاز أو ضوء وبطاطن الصين، الكعبة بعشرة لاف تبيعها بخمسة وثلاثين، جاء الصيف؟ كليماتيزور 12 الف بيتي أو بست مياء، تبيعو بتسع ميا، الفارق هو أن تفهم على أي شيء قام نظام بن علي: "تحويل الإنتاج إلى جحيم وجعل الوساطة أفضل وأكثر ربحا ووضوحا"،
وهذا سيشمل قريبا الفلاحة، من الطماطم إلى البصل مرورا بالكاكي الذي سوف يأتينا معلبا من تركيا وغيرها، حيث تجتهد الدولة لإزاحة كل معوقات الاستثمار، على عكسنا، حيث تزاح كل المعوقات أمام التوريد العشوائي، لتدمير الإنتاج الوطني،