والأحرى أن نصحح العنوان: لم يكن للرئيس شيء يقدمه للبلاد قبل أن يصير رئيسها، وبعد أن اختبر الناس عمقه وفكره فلم يجدوا إلا بلقعا من الأرض الجدب..
نكتب هذا في نفس الأيام التي جر فيها الرئيس بعض المدونين أمام المحاكم العسكرية ليؤدب حريتهم في التدوين.. ونكتبه في ساعات إعلان نعي مفكر عظيم يسكن قريبا من قصر الرئيس، وقد مرض ولم يعده ورفض سعي مثقفين كبار لتوسيم الرجل ولو على فراش الموت، بما يليق بجهده العلمي والفكري ودوره النضالي كمعارض شرس لنظامي بورقيبة وابن علي.. ونكتبه على وقع رفض الرئيس استقبال ممثل المقاومة المنتصرة في غزة متعللا بأسخف الأعذار (الوقت غير المناسب)، لكن سفير المقاومة عاد خائبا، والمدونون باتوا في السجون، والمفكر توفاه الله، والوسام صار غير ذي معنى، لينفتح لنا برغم الحزن باب للبحث في إضافات الرئيس في تاريخ تونس، وخاصة في جهد البناء الوطني بعد الثورة، وإننا لنأسف أن نجد أرضا يبابا.
انكشاف الخديعة
لم يكمل الرئيس عامين من مدته بعد، ولكن تبين أن كل خطابه الانتخابي كان مزيفا، وكل فعاله السياسية ذهبت عكس اتجاه الخطاب الشعبي الذي تقدم به للناس. كنا ننتظر أن يطوف البلاد محمولا على رصيد انتخابي غير مسبوق في تاريخ البلاد، وأن يشرح للناس مشروعه لتعديل النظام السياسي ليفتح النقاش حول عيوب الدستور الحالي ويتقدم في تجسيد أبوابه، خاصة منها باب الحكم المحلي. لكن الرئيس امتنع عن تقديم أي مبادرة تشريعية وشن حربا على البرلمان ورئيسه، خاصة ثم قسّم الكتل الحزبية فضم إليه البعض واتخذهم حزاما لا يقابل غيرهم، وأقصى آخرين كما لو أنهم نواب غير منتخبين.
ومع تقدم الوقت وجدنا الرئيس يخطط للاستيلاء على السلطة مستعملا قوة الدولة ضد الديمقراطية الناشئة. انتقل بين ثكنات الجيش والأمن محرضا ضد حكومة اختار رئيسها بنفسه، واختار أغلب وزرائها على خلاف ما نص عليه الدستور، فلما التزمت الحكومة بالدستور عطل عملها ورفض قبول يمين الوزراء.
لقد تبين أن القوات المسلحة بكل أصنافها لم تماش الحركة الانقلابية حتى الآن ولا نراها تفعل، لذلك تقدم الرئيس في خطه الانقلابي في مجال، آخر لقد عطل انتخاب المحكمة الدستورية ليحتفظ بحق ادعاه لنفسه وهو سلطته الفردية المطلقة في تأويل الدستور، رغم معارضة كل فقهاء الدستور لتمشيه الأحادي.
بالتوازي، عمل الرئيس على تخريب علاقة البلد بجيرانه، فهو مرفوض في الجزائر، واجتهد في منع تواصل اقتصادي مع ليبيا، ولولا أن الحكومة تجاوزته بالسعي لتم عزل البلد إلا من قناة واحدة هي قناة أعداء الربيع العربي الذين يعتبرهم أشقاء له.
هذا الوضع من القطيعة غير المسبوق في تاريخ البلد هو الإنجاز الأكبر للرئيس المنتخب. فعلاقته برئيس البرلمان انقطعت، ورئيس الحكومة يتحرك دون العودة إليه ولو مجاملا، وقد رأيناه ينحني على كتف الرئيس الفرنسي ويستنكف أن يمد يده لشركائه في الحكم. وقد وصل الآن مرحلة تهديد الحريات الفردية مستعملا المحاكم العسكرية ضد المدنيين. أما موقفه من سفير المقاومة المنتصرة فقد سجل في الخيانة.
الرئيس الجامعي عزل نفسه عن النخبة
آلاف الأسئلة يطرحها التونسيون كل يوم: لماذا لا يخرج من قصره ويتحدث مع الناس حديث ابن الشعب للشعب كما توهم الشعب ذات انتخابات؟ لماذا لا يعبر عن أفكاره في الإعلام، فالرئيس لم يقابل صحفيا واحدا منذ تولى السلطة، والمقابلة الوحيدة (13 دقيقة) منحها لقناة أجنبية؟
لماذا هرب مستشاروه من القصر تباعا؟ ومن يشير عليه الآن في وحدته؟ لقد تسربت معلومات كثيرة عن مال وسخ في حملته الانتخابية، لكنه لم يرد عليها بالقضاء، بل يطالب الحكومة بمطاردة المدونين الذي ينقدونه في السوشيال ميديا. لماذا لا يتحدث مع مثقفي البلد وهم كثر؟ لماذا لا يستضيف ندوات فكرية في القصر كما فعل الدكتور المرزوقي؟ لقد بنى بورقيبة مسرحا صغيرا في قصر قرطاج كان يشاهد فيه قبل الجمهور العروض الأولى وينقد الفنانين ويحاورهم، لكن هذا الرئيس لم ير في عرض فني أبدا ما يستحق. وحتى عندما قابل البعض اختار أبعدهم عن الإبداع، ممن لا يصنف في أهل الفن (ومن يعرف خارج كباريهات العاصمة غلاما اسمه نور شيبة؟).
وتتسع دائرة أسئلة الجمهور: لماذا لا يخرج أنصار الرئيس مفسرين لسياساته (إن كانت له سياسيات كما يزعمون)؟ ولماذا يجنحون إلى لعن كل من يعارضه بكل لفظ سوقي وبكل لغة منحطة دون أن يقدموا أية فكرة بديلة؟ هل لدى الرئيس مشكلة مع مثقفي بلده؟
السؤال في المجالس الشعبية والمقاهي الآن: من هذا الشخص الغريب؟ وما علاقته بنا؟ ويرتد السؤال على أصحابه: كيف خدعنا وانتخبناه؟ ثم ماذا نفعل لننهي المسخرة؟ ويصل الجميع إلى الجملة الأخيرة: هذا الرئيس مات في نفوسنا ونحن الآن بلا رئيس، وبإمكانه أن ينشر ما شاء من أسبار آراء مزيفة عن شعبية في اطراد.
رئيس للنسيان
إن الرئيس باق لأننا فقط لا نملك كلفة تمويل انتخابات رئاسية سابقة لأوانها. هذه الحقيقة التي نقف عليها، ويجب أن يحمد الرئيسُ الوباءَ المتفشي الذي يعيق الذهاب إلى تجمعات انتخابية. بعض أسباب بقاء الرئيس هو وباء كورونا، وبعض صبرنا عليه أن الدستور حجم صلاحياته فلن يلحق بنا ضررا أكثر مما فعل منذ توليه.
كل المؤشرات السياسية تتجه إلى عزله من النفوس ثم من النفوذ، خاصة بعد فضيحة الخطة الانقلابية التي وصلت مكتبه وسكت عنها حتى تسربت من داخل القصر. لقد تحركت الحكومة والبرلمان في اتجاه حلحلة الأزمة الاقتصادية، ونستشعر حركة اقتصادية تدب في أوصال البلد رغم الوباء، كما نستشعر حالة تفهم خارجية للوضع في تونس، فالديبلوماسية الدولية تتحرك في تونس ولا تمر بقصر الرئيس، بما يوحي بأن للبلد أصدقاء ليس منهم من يثق في الرئيس.
ليدنا كثير من الصبر والمثابرة، فقد تحملنا نظام ابن علي ربع قرن، ونحن نتصبر بذلك لاحتمال بقية المدة. وقد تلقينا درسا قاسيا نعتقد جازمين أنه سيكون سلاحا انتخابيا أمام الصندوق الانتخابي القادم، فرب صفعة أفاقت غافلا من غفلته. ومن يدري لعل ذلك من بعض ضرورة الوعي الذي تجله الثورات. نقول على بصيرة: هذا رئيس للنسيان، وليس راتبه الشهري هو الخسارة الأكبر في الموازنة.