ها هي الحكومة الإسرائيلية الجديدة ترى النور فتنهال برقيات ومكالمات التهنئة من كل أنحاء العالم. لا أحد، عدا الفلسطينيين طبعا، قال إن نتالي بينيت زعيم حزب ديني متطرف أكثر من نتنياهو، المتطرف هو الآخر، وإن كثيرا من أعضاء حكومته هم كذلك من أحزاب دينية متطرفة تؤمن بتأبيد الاحتلال واستمرار الاستيطان وترفض أي تسوية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لو قُدِّر للانتخابات الفلسطينية أن تمضي قدما، ولو قُدِّر للفلسطينيين أن يشكّلوا حكومة ائتلافية من كل ألوان الطيف السياسي، بما في ذلك حركة «حماس» أو «الجهاد الإسلامي» إن قبلت، لرأيت العالم يهتز احتجاجا بما في ذلك بعض الحكومات العربية. حتى قبل إجراء هذه الانتخابات، كانت إسرائيل تضغط على السلطة لتخويفها من إمكانية فوز «حماس» وحتى مع دعوة الرئيس محمود عباس الأخيرة لتشكيل حكومة جديدة وشرط الانضمام إليها الموافقة على المعاهدات الدولية والالتزام بالشرعية الدولية فإنك ستجد من يندد بأي انضمام لحركة «حماس» إليها، مع أن مثل هذا الانضمام يبدو مستبعدا حاليا.
ليس هذا هو المهم، رغم ما في هذا الاختلاف في التعامل بين المشهدين من مفارقة مستفزّة ومن نفاق بيّن، فالأمر في النهاية ليس بجديد، لكن المهم والمثير فعلا للدهشة والاستغراب فهو تناغم أوساط عربية رسمية مع مثل هذا التوجه، بل أكثر من ذلك تجريمها لــ «حماس» في تماهٍ مع الموقف الإسرائيلي بحرفيته تقريبا..
وممّن؟ من قِبل مسؤولي دول لم تجمعها يوم حربٌ مع إسرائيل، ولا هي دول حدودية معها، ولا هي حتى تعاني من معارضة إسلامية على أرضها متحالفة مع «حماس». حتى مصر الرسمية التي جرى بينها وبين «حماس» ما جرى، وألبستها اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، وقطاع غزة على حدودها، لم يقل فيها مسؤولوها ما قاله وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة.
من حق أي كان أن تكون له انتقاداته الكثيرة على «حماس» وهذا ما فعلتُه أنا مثلا في أكثر من مقال وأكثر من مناسبة، لكن ذلك، على وجاهته أو وجاهة بعضه على الأقل، لا يجب أن يصل بالمرء مطلقا إلى أن يصطف مع إسرائيل ضدها، وتحت أي تبريرات مهما كانت، خاصة وقد نجحت الحركة في معركة غزة الأخيرة في أن تهز ضمائر عديدة في أنحاء العالم وتجبر الجميع على أن ينظر إلى معضلة الاحتلال الإسرائيلي، ولو مُكرهًا، بعد أن ظن ترامب ونتنياهو أنهما نجحا في طي صفحته نهائيا.
البوصلة الحقيقية، أمام أي إنسان منصف وحر، هي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي البغيض أما ما قد يوجه من انتقادات إلى الحركة فمشروع في سياق مختلف أو هو قابل للتأجيل، لا للإلغاء. هناك دائما المهم والأهم، والأهم في هذه المرحلة، بلا جدال، هو هذا الفرق بين من يتصدى للإحتلال ومن يهادنه، بل ويطبّع معه، وهنا لــ «حماس» تفوق أخلاقي لا يجب نكرانه.
المعيار أيضا في هذا هو نبض الشارع الفلسطيني، حتى قبل العربي أو العالمي، فحين يخرج الناس في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر دعما لما أبدته الحركة وفصائل المقاومة الأخرى من بسالة في الدفاع عن الأقصى وسكان الشيخ جراح ولتلك الصواريخ التي أربكت الاحتلال رغم فداحة الخسائر الفلسطينية فتلك رسالة لا تخفى إلا على من أعمى الله بصيرته.
ما أعطى لحماس أيضا هذا التأييد هو الهزال الشديد الذي وصل إليه خيار التسوية الذي راهنت عليه السلطة الفلسطينية، دون أن يُقابل بأي تقدير أو نتيجة، لأنه في النهاية ما من حركة تحرر وطني في العالم نالت ما تريد بالرهان فقط على عدالة القضية والقانون الدولي، بل بالمفاوضات التي تفرضها فرضا شراسة المقاومة وارتفاع فاتورة التكلفة على العدو. لا مفر من تزاوج الخيارين فبإمكان الفلسطينيين أن يكمّل كل واحد منهم الآخر، فلا هذا يتهم الآخر بالخنوع والاستسلام ولا ذاك يتهمه بالتهوّر والتطرف. الأول يحتاج لواجهة سياسية دولية والثاني يحتاج لرافعة مقاومة تصلب عوده السياسي، وأي تحرك يلغي الآخر هو تحرك أعرج بالضرورة.
هذه حسابات فلسطينية داخلية يُرجى أن يتم ترتيبها بذكاء. من لا تعجبه السلطة أو «حماس» فذلك شأنه طالما أن الشطط لا يصل به إلى أن يصطف مع الاحتلال من باب النكاية الغبية. من الغريب أن نجد عربيا يستلطف نتياهو وترامب ويمقت «حماس» لا يزعجه أصلا أن يكون رئيس الحكومة الإسرائيلي الجديد من حزب يهودي متطرف ويزعجه جدا أن تكون «حماس» إسلامية حتى ولو سلّمنا له جدلا بأنها متطرفة، فهذا متطرف في احتلاله وذاك متطرف في الدفاع عن أرضه.. فأي التطرفين نختار؟!
في برنامج ديني على قناة سعودية، تحدث أحد المشايخ حانقا على هؤلاء الذي يجرّمون «حماس» في معركة غزة الأخيرة ويتزلفون في المقابل إلى إسرائيل قائلا لهم بصرامة وحزن: يا أخي شوية كرامة… يا أخي شوية نخوة!!