1/ إما البحث عن الحقيقة كاملة غير مجزءة أو إرضاء قناعة متخيّلة : الأولى تقتضي البحث والترجيح ومناقشة القرينة بالقرينة والغوص في الوقائع والتفاصيل (تلك التفاصيل الفنية التي تحتاج حد أدنى من الدراية المعرفية لمناقشتها) ، وإما الخيار الثاني أي إرضاء قناعة متخيلة لا تحتاج إلا تثبيت اتهام سياسي جاهز منذ سنوات. أعرف عديد الأصدقاء المتحمسين لهذا الملف، ولموضوع الملفات التأديبية القضائية الأخيرة، وجلهم نواياهم صادقة، ولا أعتقد إلا أن ديدنهم الحقيقة ثم المحاسبة ضد كائنا من كان، وكل ذلك لا يقتضي إلا البحث والتمحيص، ذلك أن الحقيقة تُبنى على الجزم واليقين لا على الشك والتخمين، تلك الجملة النموذجية في الأحكام الجزائية وتقارير المحامين.
2/ مهم الوقوف على نتيجة التصويت داخل مجلس القضاء العدلي (بوصفه مجلس تأديب): 7 ضد 7 وصوت رئيسة المجلس هو من رجح القرار المتخذ. الأغلبية العددية من القضاة والمحامين صوتت ضد القرار (5 من أصل 9 قضاة و2 من أصل 3 محامين). والقضاة الخمس منهم 3 أعضاء بالصفة (عينهم المجلس الأعلى للقضاء وليست السلطة التنفيذية كما تداول البعض) و2 من المنتخبين بينهما رئيس المجلس الأعلى للقضاء (الذي أعتقد أن كل متابع عن قرب للشأن القضائي يعلم سمعته). ومن بين القضاة المصوتين ضد القرار هو مقرر الملف التأديبي نفسه وهو فتحي عروم وكيل الدولة العام، ومن بين المصوتين لفائدة القرار ذلك القاضي الذي انقلب على مكتب جمعية القضاة ذات 2005 ويوصف في كواليس المحاكم بـ"قاضي الذهب" من شدة فساده، وأن تطابقا جزئيا ممكنا بين أعضاء مجلس القضاء العدلي الذين دافعوا على الطيب راشد (المحال على التحقيق لجرائم تبييض أموال وارتشاء وتدليس) وبين من صوتوا لفائدة قرار إحالة العكرمي.
ما أريد قوله إنه ليس من صوت على القرار نزيه مريد لسلطة قضائية مستقلة وليس من صوت ضده بالضرورة كذلك، ليست فسطاطا مطلقا بين أهل حق وأهل باطل كما روج البعض بما فيهم نقابات أمنية (تلك التي تعادي بعضها القاضي المعني حينما عملت تحت إمرته خاصة في قضية متحف باردو لما سحب الإنابة من فرقة أمنية بسبب التعذيب). بالنهاية، لم يكن قرار إحالة الملف على النيابة يسيرا، ومن صوتوا ضده لا أعتقد أنهم معنيين بالتستر على الإرهاب أو معنيين بحماية قاض "مجرم" (وإلا وجبت محاكمتهم جميعًا). المسألة في أبسط تقويم هي اجتهاد محض وتتعلق بنقاش في تفاصيل الملف للإجابة عن سؤال: هل ملاحظات التفقدية في التقييم الصناعي (التي اتهمها القاضي المعني بالتدليس واختلاق معطيات وعدم النزاهة) ترتقي لما يستوجب التتبع الجزائي؟
3/ يصعب الفصل بين السياسي والقضائي التأديبي في ملف البشير العكرمي، باعتبار أن هيئة الدفاع عن الشهيدين وهي طرف تتهم القاضي المذكور منذ سنوات (تحقيق 13 ثم نيابة) بخدمة النهضة بغض النظر عن خلفيات هذا الاتهام أو أسسه. الطبيعة السياسية ثابتة للملف على الأقل كما تقدمها هيئة الدفاع وكما وقع تصويره لدى الرأي العام.
يوجد توظيف للملف في سياق الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين، والعديد يتخذ موقفه بناء على هذا الأساس. هل حركة النهضة لم تسع لنفوذ داخل القضاء؟ أعتقد أنها سعت ولازالت، ويجب التصدي لها ولبقية مراكز النفوذ السياسي والمالي التي لها غواصات في القضاء، وهذا العمل الذي يجب أن ينخرط فيه الجميع اليوم من أجل سلطة قضائية مستقلة.
كل ذلك لا يعني أن نستبق الاتهامات ولا يعني أن نستسلم لانطباعات، ولا يعني أن نتجاوز شروط كشف الحقيقة (المواجهة وحق الدفاع) بعيدا عن أي شكل من أشكال الضغط والتأثير. اختارت هيئة الدفاع عن الشهيدين سياسة دفاعية واتصالية للدفاع عن تقديراتها قوامها التصدير إلى الرأي العام، واختار القاضي المعني واجب التحفظ المطلق.
أعتقد أن الرأي العام بحاجة لمعرفة كل التفاصيل من كل طرف، وأنا المطلع منذ مدة عنها أو عن جلها على الأقل، وأعتقد أن القاضي المعني يجب أن يعي خصوصية ملفه أمام خطورة الاتهامات الموجهة إليه بما يستوجب الخروج عن واجب التحفظ في قضية رأي عام بحكم طبيعتها.
باسم الشفافية والحق في الحقيقة، على الرأي العام أن يعلم كل التفاصيل، وحينها ستنكشف الحقيقة لمن شاء معرفة الحقيقة بدون أي مغالطة أو وصاية، وكل من أخطأ أو غالط أو أوهم أو أجرم، تجب محاسبته: محاسبة شعبية وأخرى قضائية.
4/ قرار إحالة الملف على النيابة يقرأه القاضي المعني بالأمر أنه ظالم بحقه (وهو ثالث تقرير تفقدي بعد تقريرين سابقين لم يثرا إخلالات بحقه الأول زمن توليه التحقيق والثاني حين ترشيحه لوكالة الجمهورية) ، ويقدر أنه سقط ضحية عاملين : ضغوط سياسية مارستها هيئة الدفاع عن الشهيدين وتوازنات مشبوهة داخل المجلس الأعلى للقضاء (منها ما يتعلق بمحاولات الربط مع ملف الطيب راشد).
ولكن بغض النظر عن ذلك، فقرار الإحالة على النيابة مفيد في جوهره للجميع على المدى الطويل: للقاضي المعني بالأمر والرأي العام وكل باحث عن الحقيقة ولرد شبهة الحماية من أطراف سياسية، لأن قرار الإحالة لا يعني إلا استنفاذ كل مسارات البحث عن الحقيقة (لا يُنكر أنه قرار مكلف على القاضي المعني لأنه تم إيقافه عن العمل وظهر بصورة المدان أمام قرينة براءة ضائعة أمام الرأي العام في سياق دافع لتثبيت الاتهام السياسي).. النيابة العمومية الآن يمكنها نظريا حفظ الملف إن رأت لا موجب للتتبع ولكن هذا مستبعد واقعا لاعتبارات متعددة، والمنتظر أن تأذن في المقابل بفتح بحث تحقيقي، وليس المطلوب إلا أمرين: أن يتولاه قاض نزيه لا يحتكم إلا لضميره وأن يتم التحقيق في أجل معقول بعيدا عن التمطيط ليصدر حكم بات قبل تعهد مجلس التأديب من جديد.
الأبحاث القضائية لوحدها ستكون هي الفيصل، للفرز بين الصحيح والمغالطة، ولمعرفة الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة بعيدا عن الضغوطات والتأثيرات من أي طرف كان. وحينها سنتبيّن أننا كنا أمام قاض خان الأمانة وجبت محاسبته، وإما أمام قاض تعرض لمظلمة ووقع ذبحه، وتبقى الحقيقة هي الغاية والمبتغى دائما.