أن يتم الخلط بين الاحداث والوقائع الثابتة من جهة و"الآراء" الانطباعية من جهة اخرى. فتتحول "الاحكامُ على النوايا" الى حقائق "مطلقة" ودورُ المتعلّم الى الاستقصائي حول نوايا الناس وخلفياتهم المُحتملة، ويُعتبر اليساري ملحدا، أو علمانيا تقدميا حداثيا، والاسلامي "اخوانيا" رجعيا او مسلمًا ورعًا تقيًّا (وهي ثنائياتٌ لها وعليها قد أرجع اليها لاحقا).
فيُصبح المُهدِّمُ بنّاءً والبنّاءُ مُهدِّمًا و الفاشلُ بطلاً والناجحُ فاشلا.. وتُنتهكُ القيمُ وتنقلب معاييرُ النجاح رأسا على عقب، ويتصدّر المشهدَ والحُكمَ والقرارَ أضعفُ الناس فكرًا وأقلُّهم تكوينًا في حين أنّ الامر الاساسي هو الخلاف حول البرامج والرؤى التي يحتاجها التونسيون.
- أن يتمّ اختزال أسباب الفشل في أمرٍ واحد :
(1) وكأنّ نقائص الدستور هي السبب الوحيد في التصارع حول الصلاحيات وفي اضعاف الدّولة، إن لم تكن هناك مسؤولية مجتمعية لمؤسّسات الدولة للنأي بالبلاد عن التجاذبات الجانبية (وعن مخاطر الرّجوع الى المربع الأول) ولتعزيز مؤسسات الدولة واستكمالها.
(2) وكأنّ سبب الوضع الراهن هو هذا الحزب أو ذاك والحال أن الانتخابات لم تُفرز بتاتا حزباً وحيدًا ذا أغلبية مُطلقة حتى يسُوسَ البلادَ بمفرده ويتحمّل مسؤوليته كاملةً، بدون الاشارة الى المناورات السياسوية و الترويج الى الغاء الديمقراطية بعدم القدرة على تقديم بدائل، الامر الذي أضاع للتونسيين سنوات باهضة الثمن. وحتى إن كان هناك حزبٌ ذا أغلبية مُطلقة، فإنّ التجارب الانتقالية اثبتت استحالة قدرته على إدارة الانتقال بمُفرده.
(3) وكأنّ أصل الدّاء في الاقتصاد يكمن في "كتلة الأجور" والحال انها جزء من عشرات المكونات الاقتصادية الاخرى والسياسات الاقتصادية والمؤسّسية التي لم تحض حتى بالحديث عنها.
- أنْ يتمّ بناء أجندة سياسية مقتصرة "على نفي الآخر" بما يسبب ذلك من عنف وتعدٍّ على قواعد اللعبة الديموقراطية وتهديدٍ للبناء الديموقراطي. فحصيلة العديد من الاحزاب منذ انتخابها كانت هزيلة ومخيبة للآمال مثل"عدد اللوائح المقدمة"، "عدد الانشطة الاعلامية الفاقدة لمبادرات تخصّ المواطن"، "عدد الشتائم الموجهة للخصم"، "عدد التعيينات التي حضي بها الحزب"، "عدد التوريطات التي حيكت ضد خصم سياسي"، وهي أنشطة لا تحتاج تفكيرا معمقا ولا الى إبداع ولا كفاءة ولا بطبخ….
وكل مظاهر أزمة التفكير هذه إنما هي "فخاخ منهجية" يسقط فيها ذوو الكسل أو العجز في التفكير وضحايا الايديولوجيا التي هي غشاوة تمنع القراءة العقلانية للواقع؛ قراءةٌ كم نحن اليوم بحاجة اليها.