كل الأنظمة في المنطقة المغاربية مسؤولة بقدر ما على الاخفاق في البناء وفتح المغاليق وايجاد المخارج وتفكيك الأزمات، من الطبيعي أن تأجيل فك المشكلات المعقدة يخلق وضعا أكثر تعقيدا.
ما لم يكن في الحسبان، أن تنتقل الأنظمة الى مرحلة التدمير الذاتي للمنطقة، ووضع نفسها حيز الخدمة لصالح المهندس الدولي، توسيعا للفراغ أو تعطيلا لمحركات التنمية، بينما كان المطلوب منها كحد أدنى، الحفاظ على الارث السياسي لدولة الاستقلال، واحترام تطلعات أجيال التحرير على الأقل .
يدرك النظام المغربي أنه أقل ثقلا وأن يداه أضعف بكثير من أن تسعفه لحمل قلم لتغيير الخرائط وتفسير التاريخ واعادة تقسيم الجغرافيا، وصناعة الشعوب والأقاليم على طريقة سايكس بيكو، جرب صدام حسين ذلك في لحظة غرور منه، لكن المنطقة كلها دفعت ثمنا باهضا وكلفة خطيرة لخطوة متهورة وغير محسوبة العواقب.
عندما يضع المغرب البوليزاريو مقابل الماك، فهو يدرك ولا شك أنه يخلط خلطا كبيرا، وأن لا منطق سيسعفه في ذلك ، لأن هناك فرق جذري بين حركة تحرر وبين حركة تفكيك وظيفية، ومثل هذا السلوك المعاند، سيحرق أصابع المغرب أولا، ليس لتوفر لديه نفس الخصوصيات الاثنية في منطقة الريف، ولكن لأن الملك يعيد تقريبا نفس خطأ صدام حسين بداية التسعينات عندما أراد تغيير الخريطة ، ووضع خروجه من الكويت ،في مقابل انهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مع أن الأمر لا يستقيم بأي حال كان، وبحيث أنه لا وجه للمقابلة والمطابقة بين الحالتين.
يمكن أن يعطي وضع الرباط، الداخلة مقابل تل أبيب، وقنصلية مقابل قنصلية، مؤشرا على اندفاع المغرب نحو دبلوماسية المصالح التي تتأسس على مبدأ المقايضة والتحلل من الأخلاقية السياسية، وهنا تكمن الخطورة بالنسبة لبلد جار كالجزائر، لأن المغرب تصبح لديه قابلية لوضع كامل رواقه الحدودي مع الجزائر، للإيجار بمقابل مجزي، بعدما يأس من كل أمل في فتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ ربع قرن، بل انه قد يعلق سبب تصرفاته على رفض الجزائر فتح حدودها .
فكرة خلق مشكلة وحدوية للجزائر ليست جديدة، ومحاولة ايجاد ما يقابل قضية الصحراء الغربية كانت واردة لدى النظام المغربي منذ فترة، ربما تعتبر الرباط أن الظرف نضج الآن وعوامل توفرت بما يكفي للإقدام على ذلك، والأكيد أنها لن تتوقف عند المذكرة الأخيرة، سيقدم الاعلام المغربي على اعتماد هذه الخريطة، وتسويقها سياسيا في كل محفل ، ولهج الأدبيات المرتبطة بها، بغض النظر عن جدوى ذلك، يمكن ان يتطلع العقل المغربي الى الانفاق لعقد تحالفات مع كل واجهة اعلامية ودعائية ممكنة، لاستخدام الرسم والمسمى، سيكون المغرب مهمتما بدفع الجزائر الى الانشغال بملاحقة أي جهة تستخدم ذلك واستنزافها ما أمكن في هذا السياق.
من الواضح أن عقد الحكمة انفلت من يد الدبلوماسية المغربية. شيئ أو أشياء ما طرأت على قواعد تقدير الموقف وأدوات صياغة الخطوة لدى البلد الجار، الأمر لا يتعلق بعلاقات المغرب مع الجزائر فقط ، بل بعلاقاته مع عدد من الدول التي دخلت الرباط معها في مناوشات غير مفهومة، ألمانيا وأسبانيا. فقبل شهر تعمد لمغرب اطلاق جحافل المهاجرين ممن يعتبرهم فائضه البشري على اسبانيا، وأعلن شبه تجميد لعلاقات التعاون مع ألمانيا، من الواضح أن الجيل الجديد من رجالات النظام المغربي يفتقدون الى الادراك والعمق التاريخي الذي كان يتوفر لرجالات العهد السابق.
في كل مراحل أزمة العلاقات الجزائرية المغربية المزمنة منذ عقود، ظلت الشعرة ممتدة وحد أدنى من الود قائم من الطرفين، لكن الظاهر أن الخطوة المغربية الأخيرة جلاء رغبة في الذهاب الى قطيعة نهائية، والدفع بالعلاقة مع الجزائر الى نقطة اللاعودة، المريب أن سياقها المتزامن مع التهافت المغربي نحو تصعيد التعاون مع إسرائيل، يجعل لهذه الأخيرة اسهام في تدبير السياسات الاقليمية للمغرب، وهي لن تبخل على الرباط بكل ما يعزله عن محيطه.