لن تنهار التجربة الديمقراطية في تونس والذين ينتظرون نهايتها سيفنون وتبقى، ليست هذه من باب الأماني، بل وقائع ومؤشرات يمكن لكل حصيف أن يلتقطها ويربط بينها بقليل من الثقة في فعل التاريخ الذي لا يرتد. هذه مؤشرات نراها عيانا لا يفلح إعلام الردة المدفوع الأجر أن يغطيها.
هناك معاناة حقيقية في المعيش اليومي لفئات مختلفة (فقيرة في الغالب) وهناك أيضا حالة قرف من الاهتمام بالشأن العام نسمعها (لدى الفئات نصف المتعلمة والنخب الكسولة) ولكن نلتقط أيضا تحفزا رهيبا للدفاع عن الحريات وهذا مفتاح كل شيء. مادة بناء المستقبل الديمقراطي هي الحرية وقد قامت فلم يقدر عليها كل مرتد.
سنعرض لبعض ما نراه علامات صحة في المسار الديمقراطي وهذا يمثل لدينا حالة استعصاء على الكسر وتحمل في صلبها مؤشرات انتصار وحسم.
الانحطاط الأخلاقي للردة
نعاين هبوط أخلاقيا واسفافا يصح فيه نعت الانحطاط وهو الوجه الأخير للثورة المضادة فلم تعد تملك غيره بعد كشف كل حيلها ونفاقها للثورة وللعملية الديمقراطية برمتها.
نقرأ هذا الانحطاط كمؤشر عن العجز السياسي (العقلاني ولو داخل سياقات رفض التغيير) لم تعد القوى المعادية للتغيير والمخربة للمؤسسات الديمقراطية تنتج أفكارا قابلة للسماع والتداول وحتى تلك الجمل المبتورة عن مستقبل البلد والنفحات الوطنية الفجائية (مثل نوبات الحمى) لم تعد تسمع على منابرهم. لقد استعاضوا عنها بالأكاذيب القصيرة الأمد وقد بلغوا حضيض المناكفة السياسية بالدعاء بالموت على رئيس البرلمان (رئيس حزب النهضة) بعد أن تعرض لإصابة بفيروس كورونا هذا المؤشر الكاشف لنفوس مرضى مؤشر على موت أصحابه وخروجهم من ساحة الفعل السياسي.
عهدنا بالمعارضة في التجارب الديمقراطية تتصيّد أخطاء الحكومات وتزايد عليها بالأفكار الجديدة وتستعد للصندوق القادم لكن المعارضات التي تملأ إذاعتها وجرائدها بتمني الموت لخصومها هي معارضة في طريق الفناء السياسي، وهذه خطوة إلى الأمام على طريق الانتقال الديمقراطي.
الألسن تلهج بالحرية.
يقول المرجفون الحرية لا تقدم للناس خبزا، ولكن الغريب أن الجياع المحتاجين للخبز هم الأعلى صوتا بالحرية وهم الأشد دفاعا عنها كأنما يقولون لمن يفضل الخبز على الحرية نحن لسنا خرفانا تسمن لعيد. الألسن تنطق بحرية وتكتب بحرية والأصوات الحرة تزداد عددا صحيح إنها الأفقر وهي عاجزة دون ماكينة إعلامية محترفة في صف الثورة والديمقراطية، لكنها أصوات مؤمنة بما تقول.
ولقد استفاد أعداء الثورة والديمقراطية من مساحة حرية لم يدفعوا فيها قطرة عرق واحدة فضلا عن أن تكون قطرة دم لكن ليس أقدر على الحرية من فضح أعدائها ومنافقيها.
إن ما تمتعوا به من حرية قد كشف خواءهم وصفاقتهم وعرف الناس أنهم ليسوا أكثر من ماكينة أكاذيب محترفة. لقد انطلى الكثير من الكذب على الناس خاصة وهم غير مدربين على تمحيص الأخبار لكن مع تقدم الوقت بدأ الناس يفهمون ولا يصدقون كل ما يقال لهم وظهر ذلك في لامبالاتهم بوسائل الإعلام المحلية وهو ما أصاب جوقة الإعلام بسعار تحول إلى مزيد من الكذب والافتراء على الثورة ومن ناصرها.
الزمن يشتغل لصالح الانتقال الديمقراطي
يمكننا قياس قوة أو ضعف العناصر المرتدة عن الثورة رغم غياب وسائل قياس علمية، ولكنها المؤشرات تلاحظ وتقرأ فبين 2014 و2019 انكشف تراجع كبير في مستوى تماسك مجموعات الثورة المضادة وانكشفت رغباتها الغريزية في الغنيمة ولو على حساب البلد. وبعد 2019 إلى اليوم نلاحظ أن حالة التفكك (والعجز عن بناء لحمة بديلة) لا تزال سارية في جسم الثورة المضادة، وقد أربكها أمر من داخلها وهو ظهور الحزب الفاشي.
لقد سرقت الفاشية خطاب المزايدة على الثورة ثم استولت على خطاب التقدمية، فلم تجد مكونات المنظومة من موقع لها إلا وراء الفاشية وكلما اقتربت منها فقدت مصداقيتها. وكلما ابتعدت عنها وجدت نفسها بلا جمهور وهي تعيش حيرة الخطاب والتموقع. والتنافس في هذه المنطقة السياسية يخسر الجميع لأن خطاب الفاشية (وممارساتها) هو اللاخطاب أي العدم السياسي.
لا أحد من مكونات المنظومة قادر على استعادة خطاب الباجي قائد السبسي التجميعي ليضم فلول المنظومة وقد ظن الناس خيرا بحزب آل عبو فانكشف عن خواء ديمقراطي مصطف وراء الفاشية يكمل ما لم تنجزه.
كان الانتقال الديمقراطي يقتضي مطاولة أعدائه وخصومه وقد فعل فإذا هو يتقدم وهم يخسرون. نكتب هذا ونحن واعون أن المسافة التي قطعت أقل من المسافة التي يجب أن يسيرها هذا الانتقال وأنه قد خسر وقتا وجهدا.
نقدر أن هناك مراكمة ديمقراطية وأن هناك مكاسب كبيرة في طريق طويلة لإرساء ديمقراطية لا تهتز ولا تنتج الفاشية ولا تعيش إلا بالإعلام الذي يحترم المواطن. لكن كان يجب أن يمر وقت وقد بذل والنتيجة أن الديمقراطية تستعصى الآن على الكسر وهي تجبر خصومها على اتباع طريقها ويكفيها أنهم في حالات غضبهم من الديمقراطية يطالبون بانتخابات سابقة لأوانها، لقد نسوا البيان رقم واحد وهذا انتصار جميل.