يصرّ رئيس الدّولة على عدم توصيف ما أقدم عليه بالإنقلاب، ويدعو بكلّ ثقة العارف من يختلفون معه في ذلك بالعودة إلى السّنة الأولى من التّعليم الابتدائيّ ، وبمعزل عن البعد السياسي للمسألة هات لنناقش مستندات السيّد الرّئيس لهذه التّأويلات في نقطة محدّدة وهي تعليق أعمال البرلمان نقاشا لغويّا ولسانيّا صرفا …
ينصّ الفصل الثّمانون للدّستور على التّالي :
" ويُعْتَبَر مجلسُ نوّاب الشّعب في حالة انعقادٍ دائمٍ طيلةَ هذه الفترة "
وقد قصر الرّئيس دلالة هذه الجملة على عدم إمكان حلّ البرلمان، لكن اعتبر أنّها لا تدلّ البتّة على عدم إمكان تعليق أعماله وسلبه كلّ اختصاصاته، فما هو المسوّغ اللغويّ لهذا الخيار التّأويلي ؟ وهل يمكن أن يكون البرلمان قائما في حالة انعقاد مع تعطيل أعماله وسلبه كلّ اختصاصاته ؟
المسوّغ التّأويلي الوحيد للرّئيس والذي عبّر عنه صراحة هو عدم دلالة الجملة على عدم إمكان التّعليق، هو بشيء من التجوّز ضرب من استدلال بالخلف أو استعمال البرهان بالخلف وهو برهنة أساسها إثبات صحة المسألة المراد إثباتها بإبطال نقيضها ...
هو استدلال أقرب إلى الجدال الصّوريّ المنطقيّ أو الرياضيّ ولا يستقيم حجّةً دلاليّةً ثابتة تبنى عليها الحقائق العمليّة والإجرائيّة ... بحسب هذا الاستدلال كلّ جملة حاملة لمدلول محدّد تدلّ على المدلولات التي لم تنصّص عليها ... فلو قنا مثلا لفلان " اذهب في هذا الاتّجاه فذلك لا يتضمّن عدم إمكان الذّهاب في اتّجاهات أخرى إلّا إذا قيل له اذهب في هذا الاتّجاه حصرا ... ولكن لو قيل لفلان اجلس فهل يمكن أن يقف أو يتّكئ على اعتبار أنّ الأمر بالجلوس لا يتضمّن الأمر بعدم الوقوف أو الاتّكاء ... " ؟
هكذا يتبيّن أنّه منطق استدلالي حجاجي صوريّ مختلّ مقابل المنطق الاستقرائيّ الذي يعتبر بقوّة الدّلالة العرفانيّة والتّداولويّة ومتضمّنات الخطاب أنّ حالة الجلوس تتنافى مع حالة الوقوف والاتّكاء ... كما أنّ حالة الانعقاد في مثال الحال تتنافى مع حالة التّعليق والتّجميد وسلب الحركة والفعل المنوط بالمنعقد لتنطبق عليه صفة الانعقاد وهو هنا الشخصيّة المعنويّة " البرلمان " الممثّلة في أعضائه وإدارته المكلّفة بالإشراف على فعل الانعقاد .
فلا معنى إذا للانعقاد الدّائم دون تفعيل الإطار المخصوص بالانعقاد وتمكينه من صلاحياته المقرّره دستورا وقانونا والتي تجسّد صفة الانعقاد وما يترتّب عنه من أفعال ومقرّرات ...
لذلك لا مسوّغ في تحليل الخطاب لما ارتآه الرّئيس من معنى مناقض نصّا وفحوى واقتضاءً ... لمنطوق النصّ، بل هو تزيّد وتأليف وتحريف للدّلالة البيّنة لا يستند في أقصى الحالات إلّا لتقدير سياسي من خارج النصّ الدّستوري ... لذلك هو لا دستوريّ وطالما أنّ المسألة لا تتعلّق بمجرّد تعطيل لنصّ قانوني إجرائيّ في مسألة جزئيّة، بل بتعطيل مؤسّسة دستوريّة وسلطة تشريعيّة فتكييف ذلك يرتقي إلى العمل الإنقلابي ...
قس على ذلك بقيّة الإجراءات التي تمّ بمقتضاها الانتصاب لرئاسة النّيابة العموميّة بصلاحيات تضع المتمتّع بها في وضع تضارب مصالح صارخ وتركيز السّلطة التنفيذيّة برمّتها في يد رئيس لا يقرّ له الدّستور بذلك حتّى في إطار ما يسمّى بالدّكتاتوريّة الدّستوريّة التي أقرّها القانون الرّوماني القديم أو ما يشابهها في بعض الدّساتير الحديثة في وضعيّات خاصّة ومحدودة تعتبر فيها تلك السّلط بحكم الواقع في حالة شلل مثل حالات الحروب الأهليّة الشّاملة أو الحروب الخارجيّة وحتى في هذه الحالات تبقى هذه السّلطة محدودة ومقيّدة.
لا مسوّغ دستوريّ لهذه القرارات ... أمّا المسوّغ السياسي فهو تقديريّ ولا يمكن الانفراد بتقريره خارج إطار الحوار بين مكوّنات المنظومات الوطنيّة ... في غياب الشرعيّات الدّستوريّة والقانونية لا مسوّغ للقرارات إلّا بالشرعيّات التّوافقيّة أو النّزوع الشّعبويّ للشرعيّات الشّعبيّة في حالة الغليان العاطفيّ والتّعبويّ ... والشّعبويّات مثّلت عبر التّاريخ مآزق سياسيّة ومجتمعيّة جرّت على الشّعوب الويلات ...
يكفي أن نحيل قارئي التّاريخ على أنّ النّازيّة والفاشيّة خرجتا من رحم برلمانات فاشلة أو وقع إفشالها لتركيز السّلطات بيد زعيميها …