كان قرار الرئيس التونسي قيس سعيد بتجميد سلطات البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب، وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وتولي السلطة التنفيذية ورئاسة النيابة العامة، مفاجأة من العيار الثقيل، ولو أنها كادت أن تكون أشد وأثقل، فلم يُصدِر قراراً بحل البرلمان، لأن الدستور لا يسمح بحله، لكنه لا يقف مانعاً أمام تجميد أعماله، حسب الرئيس التونسي. على هذا الأساس، سيتولى السلطة التنفيذية، بمساعدة حكومة يقوم بتعيينها. وليس من المعروف تماماً، ما سيلحقها من إجراءات.
فحوى هذه القرارات الصادمة، تدل وكأن الرئيس يقود تغييراً من القمة في قصر قرطاج ينال فيها من المؤسسات “الديمقراطية”، ما يشير إلى فسادها، لذلك كان الوعد بالتحقيق مع النواب المتورطين في الفساد. يحيلنا توصيف هذه الإجراءات، كما تدعي التغريدات الصادرة عن مصر والامارات والسعودية، أنها ثورة التونسيين ضد الإخوان المسلمين “النهضة”، الذباب الإلكتروني بدأ في مساندة الانقلاب.
تنحو حركة الرئيس في جوهرها إلى الثورة على الثورة التونسية، أو على الأقل تصحيح لها. أتمنى ألا تذكرنا بالحركة التصحيحية التي قام بها حافظ الأسد في سورية، فقد كانت انقلاباً عسكرياً، مع أن الرئيس التونسي كحامٍ للدستور وخبيرٍ فيه، نفى عنه هذا الوصف، وتذرع بدستورية ما اتخذه من قرارات، وذلك بتفسير المادة 80 الذي استند إليها، بأن المسوغ لها رد شعبي على الشلل الاقتصادي والسياسي الذي تعاني منه البلاد منذ سنوات، أي أنه يمثل الشعب في انقضاضه على الديمقراطية.
اعتبر خبراء هذه الخطوات المتسارعة مخالفة دستورية لمبدأ فصل السلطات، إذ لا يحق لرأس السلطة التنفيذية التغول على السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس نواب الشعب، دون المشاورة، ولا يمكن تفسيرها إلا بأنها تقييد للعمل الديمقراطي.
هل أثبتت الديمقراطية عجزها، وهذه القرارات أعلنت نهايتها؟
في الحقيقة، واجهت تونس مصاعب اقتصادية واجتماعية خلال السنوات الماضية، حتى أنها اضطرت إلى الاستعانة بالجيش في مواجهة وباء كورونا، لوحظ خلالها الخلاف المستعر بين النخب والأحزاب المعارضة، وتلك النبرة الشعبوية السافرة في المعارك السياسية المختلقة، عدا عن التهجم على المؤسسات والأحزاب، بحيث ضاع الحابل بالنابل، انتجت محاولات لتعطيل جلسات البرلمان، وتعالي الأصوات للدفاع عن الديمقراطية، بهدف إلغاء بعض الأطراف السياسية. ما أدى في النهاية إلى تهديد الديمقراطية نفسها بعودة الأجهزة الأمنية والعسكر، مع أن الجيش التزم بالدستور بشكل مبكر، لكن تكليفه اليوم بتأدية مهام استثنائية، قد يؤدي إلى الانحياز إلى طرف سياسي ضد آخر، وتوريطه بالسياسة.
لا يصح الاطمئنان إلى مناعة ديمقراطية فتية، لم يصلب عودها بعد، ما زالت أسيرة التناحر بين الأحزاب والكتل السياسية، قد تسقط صريعة خلافاتهما، طالما هناك أطراف خارجية تنشد إدخال تونس في منظومة بلدان المنطقة، وإحباط تجربتها الديمقراطية، خيفة من نجاحها في تقديم أنموذج ديمقراطي، يصبح مثالاً رائداً، خاصة أن الثورة التونسية كانت الثورة الوحيدة التي نجت سالمة من الربيع العربي الذي ساهمت دول إقليمية بتحويله إلى جحيم، لكن أصبح يخشى عليها، ولا مبالغة، حتى في البلدان الغربية باتت ديمقراطياتها العريقة يخشى عليها، فرياح الدكتاتورية تعصف بالعالم.
ينبغي لنا عدم الظن بأن الديمقراطية لديها الوصفات القادرة على إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو أمر معروف، ففي الدول الغربية، ليست الديمقراطية سوى إطار للحكم، تواجه المشاكل من دون حلول جاهزة لأنها وظيفة القوى السياسية والاجتماعية، تساعدها سياسات القوى الحاكمة ومؤسسات الحكم، وما الحفاظ على النظام الديمقراطي إلا لأنه يشكل حصانة من الاستبداد.
بالنسبة للوضع التونسي، يبدو أن المشكلة مع حزب “النهضة”، والدعوة إلى إسقاطه داخل البرلمان وخارجه، ومنعه من ممارسة العمل السياسي، المثال المصري حاضر، فاتهام “النهضة” بأنها تمثل الإسلام السياسي، بقصد إحالتها إلى تنظيم إرهابي، والتصنيف تقوم به أحزاب علمانية وليبرالية متطرفة، مع أن تجربة حزب النهضة كانت مبشرة جداً، فقد خاضت انتخابات ديمقراطية وتعددية ترقى الى معايير الانتخابات المعتمدة في العالم، وقبلت من ناحيتها العمل على الاندراج في منظومة حكم ديمقراطي، أصبحت جزءاً منه، ورضيت بتداول السلطة سلمياً، ضمن قواعد دستورية، بالمقابل يحق لأحزاب المعارضة، ألا تكل عن معارضتها، وبمختلف الوسائل في البرلمان وخارجه. وإذا كان القصد تغيير سلوكها فليس بتصفيتها من الشوارع وايداعها في السجون، بل في خضم الممارسة الديمقراطية، دائماً ما أدى قمع الإسلاميين بالمقابل إلى التطرف، وتحويلهم إلى متشددين. والمنطقي أن يكون حل الخلاف القائم من خلال المؤسسات وصناديق الاقتراع، والتراجع عن هذه الإجراءات، والعودة إلى البرلمان، وممارسة اللعبة السياسية.
هذا المشهد الحالي يدعو إلى الأسف، بالنسبة لنا، وقد اعتدنا التشاؤم، يبدو وكأنه من تونس كان البدء، ومن تونس سيكون الختام. هل هذه هي الخلاصة؟ في واقع الحال، ليست قصة النهضة، بقدر ما هي قصة الولوج إلى الديمقراطية، أي إذا كنا نريد الديمقراطية، أم لا؟ جيراننا لم يريدوا لمصر ولا لسوريا الديمقراطية. هل تثبت نخب تونس، أنها بحجم التحدي التاريخي المطروح عليها وعلى المنطقة العربية عموماً، والتمسك بالديمقراطية من دون تردد؟