صباح يوم 25 جويلية 2021 تاريخ اعلان الجمهورية عام 1957 نزل الى الشارع عدد كبير من المواطنين شبابا و كهولا و اعلنوا ولاءهم لرئيس الجمهورية قيس سعيد وطالبوا بالتخلص من منظومة الحكم الحالية ممثلة في الحكومة و في مجلس نواب الشعب منادين بحلّه و في مساء ذات اليوم اجتمع رئيس الجمهورية بقيادات عسكرية و امنية و اعلن بحضورهم عن تفعيل الفصل 80 من الدستور باتخاذ جملة من القرارات قال انها تدابير استثنائية يقتضيها الوضع في تونس و برّر اتخاذ تلك التدابير بأنّ « عديد المرافق العمومية تتهاوى و هناك عمليات حرق و نهب و هناك من يستعدّ الآن لدفع الأموال في بعض الأحياء للاقتتال الداخلي » و قال ان المسئولية التي يتحمّلها و يتحمّلونها معه تقتضي منهم « عملا بأحكام الدستور اتخاذ تدابير يقتضيها الوضع لإنقاذ تونس و لإنقاذ الدولة التونسية و لإنقاذ المجتمع التونسي » و أضاف « نحن نمرّ بأدقّ اللحظات في تاريخ تونس بل بأخطر اللحظات و لا مجال لأن نترك لأحد ان يعبث بالدولة و بمقدّراتها و ان يعبث بالأرواح و الأموال و ان يتصرّف بالدولة التونسية كأنها ملكه الخاص » وقد كان حريصا على التأكيد على ان قراراته طبق الدستور وغير مخالفة له.
يتمثّل القرار الأوّل في تجميد كل اختصاصات المجلس النيابي و لاحظ رئيس الجمهورية ان هذا القرار يتعلق بما يجري في المجلس النيابي و انه كان يفترض ان يتخذه منذ اشهر و برّره بانّ الدستور لا يسمح بحلّ هذا المجلس لكن لا يقف مانعا في تجميد كلّ اعماله.
و اصدر قيس سعيد رئيس الجمهورية الأمر الرئاسي عدد 80 لسنة 2021 المؤرخ في 29 جويلية 2021 علّق به كلّ اختصاصات مجلس نواب الشعب لمدة شهر ابتداء من يوم 25 جويلية 2021 قابلة للتمديد بمقتضى امر رئاسي.
نلاحظ في البداية ان رئيس الجمهورية استعمل في كلمته عبارة « المجلس النيابي » عوض التسمية الرسمية وهي «مجلس نواب الشعب » وقد يكون لذلك علاقة بموقفه من هذا المجلس وربما بمصير هذا المجلس في المستقبل ومهما يكن من امر هل يسمح الدستور في الفصل 80 لرئيس الجمهورية تجميد كلّ اختصاصات مجلس نواب الشعب؟
لتسهيل الجواب على هذا السؤال سنحاول في هذا المقال تتبع مسار الفصل المتعلق بالتدابير الاستثنائية في حالة الخطر الداهم الذي يهدد البلاد ومؤسساتها الدستورية.
1) ) الفصل 32 و السلطة المطلقة
لقد كانت التدابير الاستثنائية موضوع الفصل 32 من دستور 1959 في صيغته الرسمية الاولى وقد أعطى هذا الفصل رئيس الجمهورية سلطة مطلقة في اتخاذ كل التدابير التي يقررها لمواجهة خطر داهم وهي غير خاضعة لأيّة رقابة سياسية او قضائية ونصّ فقط على ان رئيس الجمهورية يرسل بيانا الى مجلس الأمة عند زوال اسباب التدابير الاستثنائية التي اتخذها عملا بهذا الفصل.
وتتمثّل سلطة رئيس الجمهورية المطلقة على معنى الفصل 32 في :
اوّلا : له وحده دون الاستعانة بأي مؤسسة دستورية أخرى السلطة التقديرية لللجوء إلى هذا الفصل في صلة ب «حالة خطر مهدد كيان الجمهورية و امن البلاد و استقلالها » فإذا ما قرر تفعيل هذا الفصل فإنّه ليس مطالبا باستشارة الوزير الأوّل و رئيس مجلس النّواب.
ثانيا: اذا اتخذ رئيس الجمهورية تلك التدابير لم يمنعه الفصل صراحة من حلّ مجلس الامّة ونرجح انه ما دام رئيس الجمهورية يوجّه الى مجلس الأمّة بيانا في انهاء العمل بتلك التدابير بسبب زوال اسبابها فإنّه منطقيا لا يجوز له حلّ هذا المجلس وإلا صارت هذا البيان بلا معنى فكيف يرسل البيان إذا كان مجلس النواب منحلّا فهو لكل هذا يعقد جلساته العادية.
ثالثا : لم يحدّد هذا الفصل مدّة زمنية لا يتجاوزها العمل بالتدابير الاستثنائية.
رابعا : رئيس الجمهورية له السلطة التقديرية لاتخاذ قرار في انهاء العمل بتلك التدابير دون استشارة اي كان.
ويتضح من صيغة هذا الفصل أنه فيما يخصّ التدابير الاستثنائية كان رئيس الجمهورية يملك سلطة تقديرية مطلقة في اتخاذ قرار تفعيله أو انهاء العمل به دون أية رقابة من أية مؤسسة دستورية اخرى.
2)) السلطة المقيّدة على مراحل
لقد قيّدت مرحليا سلطة رئيس الجمهورية المطلقة بشأن القرارات والإجراءات ذات الصلة بحالة الخطر و التدابير الاستثنائية المستوجبة في هذه الحالة كما بيننا ذلك وتمثلت المرحلة الأولى في قيود يمكن وصفها بالبسيطة ادرجت في دستور 1959 بموجب تنقيحه عام 1976 ثم عام 2002 و تمثلت المرحلة الثانية في قيود جوهرية تضمنها دستور 2014.
أ) القيود البسيطة
هي بسيطة لأنها ليس رقابية و تتعلق بمفهوم الخطر و بإجراءات يقوم بها رئيس الجمهورية قبل اتخاذ التدابير الاستثنائية و بما يقوم به و بما لا يجوز له القيام به بعد اتخاذ تلك التدابير.
لقد حوّل تنقيح الدستور عام 1976 مضمون الفصل 32 الى الفصل 46 و نعت هذا الخطر بالداهم فلا يكفي ان يكون الخطر مهددا لكيان الجمهورية وامن البلاد و استقرارها، بل يجب ايضا ان يكون داهما إلاّ أنّ التشدد في مفهوم الخطر الذي تستوجب حالته اتخاذ التدابير الاستثنائية ليس له تأثير على سلطة رئيس الجمهورية التقديرية و المطلقة.
اوّلا : بسبب غياب الرقابة عليها سواء سياسية يقوم بها البرلمان او قضائية ولأن هذا الفصل حافظ علي تلك السلطة رغم انه حمّل رئيس الجمهورية قبل اتخاذ تلك التدابير واجب استشارة كلاّ من الوزير الأوّل و رئيس مجلس الأمّة ثم بموجب تنقيح الدستور عام 2002 استشارة رئيس مجلس المستشارين لكن مع احتفاظه بصلاحية اتخاذ القرار و بتفعيل هذا الفصل من عدمه فهو ليس مطالبا بإتباع رأيي من استشارهم و اذا اتخذ تلك التدابير يوجه عملا بتنقيح عام 2002 بيانا الى الشعب لكن لا يجوز له حلّ مجلس النواب ولم ينص الدستور في تنقيحي عام 1976 و عام 2002 على انه لرئيس الجمهورية تجميد كل اختصاصات مجلس النواب ونرجّح انه لا يجوز له التجميد لأنه اثر زوال العمل بتلك التدابير فانه مطالب بتوجيه بيان لهذا المجلس فكيف يوجه بيانا مجلس مجمّد و يجب ان لا يغيب عن الذهن ان الفكرة الجوهرية للدستور هي ضبط صلاحيات رئيس الدولة و مسئوليها فلا يمارسون إلاّ ما أجازه لهم الدستور صراحة.
ب )القيود الجوهرية
نلاحظ ان دستور 1959 يصف بالاستثنائية التدابير التي يتخذها رئيس الجمهورية على معنى الفصل 32 ثم على معنى الفصل 46 امّا دستور 2014 فإنّه يصف بالاستثنائية حالة الخطر الداهم التي تحتّم اتخاذ التدابير على الفصل 80 الذي حافظ على صلاحية رئيس الجمهورية في اتخاذ تدابير للتصدي لخطر داهم يهدد كيان الوطن او امن البلاد و استقلالها و حافظ على سلطته شبه المطلقة في تقدير توفر اركان تطبيق هذا الفصل وهي سلطة مبدئيا غير خاضعة لأيّة رقابة مهما كان نوعها و حافظ ايضا على عدم جواز حلّ رئيس الجمهورية للبرلمان.
لكن قيّد هذا الفصل صلاحية رئيس الجمهورية بأن حدّد له الهدف من اتخاذ التدابير التي تحتمها حالة الخطر الداهم فالغاية منها «تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال » بمعنى ان تعطيل سيرها العادي كان بفعل غيره وهو بالتدابير التي يتخذها يسعى لإعادة مؤسسات الدولة المنصوص عليها في الدستور الى سيرها العادي دون تأخير و التي من بينها مجلس نواب الشعب الذي لا يجوز له أوّلا حلّه بصريح هذا الفصل و ثانيا تجميد كامل اختصاصاته بصريح اعتبار هذا المجلس في حالة انعقاد دائم طيلة فترة سريان العمل بالتدابير الاستثنائية و ان انعقاده الدائم يمنع تجميد عمله و يحول دون العطلة البرلمانية و لأنّ البرلمان لا يجوز حلّ و لا يجوز تجميده اثناء سريان تلك التدابير فإنّه يواصل اختصاصاته لكن استثنى الفصل 80 منها توجيه لائحة لوم للحكومة ثم ان انهاء سريان العمل بتلك التدابير لم يعد بيد رئيس الجمهورية و انما ببادرة من البرلمان وبقرار من المحكمة الدستورية التي بعد انقضاء ثلاثين يوما من تاريخ تلك التدابير يمكن ان تتعهّد بالموضوع بطلب من السلطة التشريعية ممثلة اما في رئيس مجلس نواب الشعب او في ثلاثين من اعضائه.
و نلاحظ ان توفر اركان الفصل 80 من الدستور لا يحول في غياب المحكمة لدستورية من اتخاذ التدابير التي تحتمها حالة الخطر الداهم وقد سبق لرئيس الجمهورية قيس سعيد ان فعّل هذا الفصل لمجابهة جائحة كوفيد 19 و إنما يدفع توفر اركان هذا الفصل الى التعجيل بإرساء هذه المحكمة في اطار تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة و التي من بينها المحكمة الدستورية.
أخيرا إن الحكمة من هذا الفصل هو حماية كيان الدولة وكلّ مؤسّساتها لاسيّما الدستورية من خلال اشتغالها متضامنة متضافرة حتى يمكنها العودة إلى نشاطها الذي منعتها منه ظروف خطيرة كانت تستوجب قرارات استثنائية يتحوّل فيها ظرفيا مركز السلطة الى رئيس الجمهورية لكن تحت رقابة سياسية ممثلة في مجلس نواب الشعب و قضائيا ممثلة في المحكمة الدستورية التي هي مبدئيا صمّام الأمان تحول دون استفراد رئيس الجمهورية بالسلطة فليس له سوى صلاحية اتخاذ التدابير التي تحتمها حالة الخطر الداهم و صلاحية اعلام الشعب بها ثم اعلامه بزوالها عند زوال اسبابها.
هكذا تطور هذا الفصل من دستور 1959 في مراحل وفي دستور 2014 نحو التضييق في استعمال رئيس الجمهورية له وإحاطته بمحاذير انها تدابير كبيرة، بل عملاقة ولكم ضمن حدود ومحاذير.
تجدر الاشارة الى ان «حالة الخطر الداهم و التدابير التي تحتمها » استوحاها النواب المؤسسون التونسيون من الفصل 16 من الدستور الفرنسي الذي فالتدابير التدابير التي يتخذها رئيس الجمهورية الفرنسية بموجب هذا الفصل يجب ان تكون الغاية منها هو ان تمكن وفي اقرب الآجال الدستورية من عودة مؤسسات الدولة الى سيرها الطبيعي والى اداء مهامها و يستشار المجلس الدستوري في كل اجراء يتخذ الرئيس على ألا تنشر اراء المجلس ولا يمكن لرئيس الجمهورية حل مجلس النيابي او منعه من الانعقاد و لا يمكن له تقديم مشروع تحوير الدستور او الاستمرار في مشروع تحوير للدستور سبق تقديمه.
(Décision n° 92-312 DC du 2 septembre 1992, Traité sur l’Union européenne)
إن الغاية الأولى والأساسية من هذا العرض السريع المبسط لمسار فصل التدابير الاستثنائية في التجربة الدستورية التونسية هو بيان مسار العقلنة الذي عرفه هذا الفصل في اتجاه وضع قيود صلبه تمنع الرئيس عند استعماله من الانحراف بالسلطة فهذا الفصل ضروري ولكنه اخطر فصل في الدستور على سلامة عمل مؤسسات الدولة لاسيّما في غياب المحكمة الدستورية انه مثل الدواء تماما لا بد منه في أوقات المرض رغم مراراته وتأثيراته الجانبية ولكن تناوله يجب أن يكون بمقدار يقع تحديده بدقة لان بعض الأدوية النافعة والمنقذة من الخطر الذي قد يصل الى الموت قد تصبح هي نفسها قاتلة إذا ما أخطأنا في مقاديرها وطريقة استعمالها .