تتوفر للانقلاب أدوات قوة وبقاء، وهي نفس الأدوات (والنوايا) التي أدّت إليه، ويمكنها أن تمدَّ في أنفاسه إلى حين، لكن هل تكون أدوات لنجاح البلد ونجاته من أزماته؟ وهل تكون أدوات إنقاذ الديمقراطية، وتبلور نظام سياسي ديمقراطي جديد على أنقاض الفشل المزعوم لمرحلة السنوات العشر الأولى من الثورة؟
نجزمُ دون كثير عناء أن استمرار حكم الانقلاب لا تعني سلامة البلد وازدهاره، وإذا كانت المقارنات الجارية حتى الآن تتركز على وجوه الشبه بين انقلاب تونس وانقلاب العسكر المصري عام 2013، فإنه قد حان الأوان وبسرعة لمقارنة فشل الانقلابَين في إنجاز شيء يذكر، حيث نجزم أن الاعتداء على الديمقراطية سيكون الجامع الأول المشترَك بينهما.
انقلاب واحد وأجندتان
البعض قفزَ من قطار الانقلاب بسرعة قياسية، فلم يدُم حماسهم له شهرًا وأعربوا عن خيبة وتخوفات ديمقراطية، وأصدروا إنذارات وتهديدات تتظاهر بالخوف على الديمقراطية وعمل المؤسسات.
ولكن سرعة التراجُع عن التأييد المطلَق للانقلاب، لن تخفي عنا أن المسارعة إلى مناصرته هي الأصل في تفكير هؤلاء المتراجعين، الذين كانت لهم أجندتهم الخاصة داخل أجندة الانقلاب.
لقد تأخر الانقلاب كثيرًا عن بدء حرب الاستئصال المرغوبة، وتبيّن أن أولوية الرئيس حتى الآن ليست أولوية أنصاره المتحمّسين (المتراجعين).
هنا نعثر على مفتاح فشل الانقلاب، لأننا نعثر هنا بالذات على مفتاح أسباب الانقلاب، فقد كان مطلوبًا أن يستعيد قيس سعيّد وبسرعة حرب الاستئصال على الإسلام السياسي وعلى طريقة بن علي بالذات، لكن القائد لم يفعل شيئًا بعد، وقد لا يفعل شيئًا بالأسلوب نفسه.
لقد كانت لحظة 25 يوليو/ تموز، لحظة أزمة في التصدي للوباء ولنتائجه الاقتصادية، فضلًا عن الفشل الذريع في مقاومة الفساد المستشري في أركان الدولة والمجتمع.
وقد شكّل ذلك خلفية جيدة ومفيدة لقفزة تصحيح، لكن إبراز وجوه الأزمة تمّ على حساب فهم منطق حدوثها. لقد كانت أزمة مبرمَجة على مدى طويل، وصلت قمتها في يوم 25 يوليو/ تموز، وتمّ اعتماد ذلك لتبرير ما حدث.
لقد أحدث الاستئصاليون الأزمة بواسطة تخريب كل عمل منتِج يخفِّفها أو يحلّها، وكان لنقابتهم الدور الرئيسي في ذلك التخريب الممنهَج، وكانت مناصرتهم للانقلاب بمثابة استحقاق لقطف نتائج عملهم التمهيدي (إذ اعتبروا أنفسهم شركاء في الإنجاز)، دون ان نغفلَ مشاركة الرئيس في تعطيل الحكومة (برفض أداء اليمين ولاحقًا بإخفاء التلاقيح).
للتذكير، ولمزيد الإحاطة بالصورة، هؤلاء الاستئصاليون صوّتوا ضد قيس سعيّد عام 2019، وناصروا القروي، وقبل القروي (في الدور الأول) صوّتوا للزبيدي (الذي خطّط لإغلاق البرلمان بدبابتَين)، ثم انحازوا بأمر موحّد وراء الرئيس المنقلِب عندما استشعروا إمكانية توظيفه ضدّ الإسلام السياسي (حزب النهضة خاصة).
لقد ناصروا الباجي قائد السبسي بعد خوض معركة الرز بالمكسرات، من أجل الهدف نفسه، وخيّب الباجي أملهم في ذلك، كما فعل القروي لاحقًا إذ وضع يده في يد حزب النهضة.
فتصويتهم الأول ثم تحوُّل موقفهم من الرئيس ثم تعميق الأزمة وتعطيل الحكومة والبرلمان ثم مناصرة الانقلاب، هي مجموعة أفعال منسجِمة حول موقف وطلب محدّد، الشروع من جديد في الاستئصال.
يوجد انقلاب واحد لكن توجد أجندتان، إحداهما هي حرب الاستئصال التي تتأخّر حتى الآن.. لكن ماذا سيفعل الرئيس؟
تتالت خرجات الرئيس الإعلامية المشهدية، حتى رأينا الرئيس في كل مكان وعلى كل موضوع، لكن خرجاته لم تكشف خطته التي يعتزم تنفيذها.
إنه يطلق النار في كل اتجاه، ويشير ولا يُفصِح، ويَنسُب إلى المجهول ويلعن (هم) الذين لم نحدِّد ملامحهم، ما يجعل خطابه نفسه بلا ملامح ولا خطة.
لكن حتى الآن لم يَشرَع الرئيس في تحقيق شعاره الكبير: محاربة الفاسدين، فعندما يقول الرئيس الفاسدين يسمع الاستئصاليون حزب النهضة، وفي الحالتَين لم نرَ اعتقالات ولم نسمع بقضايا رُفعت إلى المحاكم.
قد لا يكون الرئيس مستعجِلًا ويسير على إيقاع أفكاره الخاصة، فمن الواضح أنه ليس عجولًا وقد يكون مرتبكًا وبلا خطة دقيقة، لكن الانقلاب كما اعتدنا على الانقلابات العربية، يسارع وينجز ويقدِّم حبًّا لطواحين الأنصار فلا تطحن الماء، فيثبّتون انقلابهم كما فعل السيسي.
ما من شيء أُنجز فعلًا بعد 3 أسابيع، والناس يترقّبون وقد دخل الكثير منهم في مرحلة الشكّ والسخرية والسؤال الذي يتحوّل من الهمس إلى العلن: ماذا يريد الرجل أن يفعل؟
آه، لقد انفجرت قضية فساد فجأة وكشفت بعض الأموال التي تتحرك خارج النظام البنكي، ولم تكن القاضية المتورِّطة (نقل أموال أجنبية بذمة التهريب) من حزب النهضة بل من حزب الفاشية، فأسقط في يد الاستئصاليين هذا ماء آخر في طواحينهم، وربما في يد الرئيس أيضًا، فخصمه اللدود صامت يترقّب ولا يبدي ردود فعل مزعجة (بعد أن انسحب من الشارع)، لكن صمته يكشف نوعًا من الطمأنينة بأن الضرر بعيد عنه.
هل يسقط الانقلاب من تلقاء نفسه؟
هذه أمنية أكثر من أنها توقّع لحدث قادم، لن يتخلى الاستئصاليون عن الانقلاب، وسيدعمونه رغم أن بعض الوجوه قفزت من القطار، ونظنُّ أن عودتها إلى ركوبه سهلة، فهُم بلا شرف سياسي.
في برنامج الرئيس السياسي ما يحقِّق بعض رغباتهم، فأن يغيّر الرئيس النظام الانتخابي ويستعيد نظامًا رئاسيًّا، سيخدم الأجندة الاستئصالية لكن بغير طريقة بن علي.
هناك احتمال كبير لقطع طريق الصندوق الانتخابي (التقليدي)، الذي سمحَ للإسلاميين بالبقاء والمشاركة، وكل عودة محتمَلة لهذا الصندوق هي فتح الباب من جديد لمشاركة الإسلاميين، وأخذهم جزء من السلطة سواء في معارضة قانونية منتخَبة، أو في مشاركة في حكومة ولو بوزير واحد، كما فعلوا مع حكومات الباجي (الصيد والشاهد)، وهذه طريق عودة يجب أن تُغلَق دونهم.
فإذا واصل الرئيس فرض أجندته، ومرَّر قوانينه خارج برلمان مجمّد بمرسوم يعلن سنّ قانون تنظيم مؤقت للسلطة، كما يروج الآن في أوساط كثيرة، ويكون بديلًا للدستور؛ فإن هذه بوابة ممتازة لدفع الانقلاب إلى إغلاق طريق الديمقراطية التي يشارك فيها الإسلاميون.
هنا يجد الاستئصاليون بعض مكاسب تجعلهم يقفون مع الانقلاب دائمًا، فبعض المكسب ولا المكسب كله، وغني عن القول هنا أنهم ما زالوا يفكّرون كما فكّروا زمن بن علي، أي استعمال الدولة وأجهزتها لتصفية خصومهم.
لكن صمت الرئيس حتى الآن أو كلامه المتناثر في مواضيع كثيرة، أقرب إلى خطاب تدخُّل اجتماعي في إدارة بسيطة، لا يسمح لنا ببناء توقعات واضحة، حيث نعرف فقط أن الأزمة الاقتصادية طاحنة، وأن الوباء لا يزال يلتهم أرواح الناس، ونعرف يقينًا وبخلاف ربط الفساد بحزب النهضة أن الفساد أقوى من الدولة (وهذا قول منسوب إلى الرئيس عندما كان جالسًا في مقهى شعبي).. بمن سيواجه الرئيس هذه الأزمات مجتمعة وبلا برلمان ولا حكومة سياسية؟
بعد 20 يومًا من الانقلاب، لا يزال الغموض سيد الموقف، وكل تأجيل في الإنجاز لا يخدم الانقلاب ولا الرئيس ولا حزامه الاستئصالي، ويتمتع أنصار حزب النهضة الآن بموقع فوق ربوة المزايدة، فكل أخطاء الرئيس روافد تصبُّ في سواقيهم، وقد يقول بعضهم في قادم الأيام: أرأيتم أن الفساد أقوى من الجميع؟
لكن الرئيس لن يعترف بفشله، ونرجِّح أنه سيقترب من الحزام الاستئصالي، ويلبّي بعض رغباته لتثبيت قدمَيه على أرض زلقة.. أما الإنجاز فلا إنجاز.