مثلما تعرضنا فيما سبق الى داعمي قيس سعيد وملامحهم، نتعرض هنا الى مناهِضِيه الذين يرون أنّه (1) تعسّفَ على الدستور مستغلا غياب المحكمة الدستورية،(2) وهو بصدد تطويع مؤسّسات الدّولة لتغيير نمط الحكم لصالحه وفق ما صرّح به أثناء الحملة الانتخابية والقائم على “مشهد سياسيٍّ خالٍ من الأحزاب”، و(3) قد بدأ بإزاحة بعض المؤسّسات الدّستورية المستقلة معتبرا إيّاها "فاسدةً" وسبباً في كل المآسي التي يعاني منها التونسيون، في حين أنّه كان من المفروض أن يُحاسَبَ الافرادُ بالقانون وتُصلَحُ المؤسساتُ وتُعزَّز، (4) مستثمرًا استقالة النخبة المثقفة في مُجملها، وموالاةَ بعض الأحزاب حيث تلتقي المصالحُ السياسية، وخيبةَ الشباب من فشل النخبة الحاكمة والذي كان على الأرجح ماضيًا قُدُمًا نحو انتفاضة لا محاله، فاحتمى بها في منتصف الطريق ضدّ خصومه ولفائدة مشروعه.
وفي هذا الإطار، يُمكن تقسيم هؤلاء الى،
- بعض الاعلاميين والأفرادِ المتخصّصين في مجال العلوم الاجتماعية أو السياسية أو القانونية، لهم دورٌ محدود في صِناعة الرأي العام وهي من المفارقات أصواتٌ هيتيريدوكسية بالرّغم من رحابة فضاء التعبير والتفكير وفي نفس الوقت قلّة الانخراط فيه، اعتبرت اجراءاتِ (25) يوليو انقلابًا على الشرعية كما تراها بالرّجوع الى العلوم القانونية أو الى فقه القضاء المقارن وأنّ المشروعية لا تُقاس الاّ بمسحٍ احصائيّ شامل.
ولكن هؤلاء لم يبدُ أنّهم وَسّعوا دائرة تأثيرهم على الرأي العام الانطباعي (من مناهضين ومناصرين) خاصّة وانّهم لم يجدوا المساندة الكلية من الأطر التي ينتمون اليها سواءً في الجامعة أو في نقابة الصّحفيين أو ضمن قُدامى السياسيين والشخصيات الوطنية. بل عارَضهم من "الاساتذة" و"الاعلاميين" بطرق منقوصة العقلانية والمسؤولية المجتمعية وكانت المواقفُ وردودُ الافعال في غالبها لا ترتقي الى مستوى الحدَث، بحيث فوّتوا فرصةَ الحوار والنقاش العلمي على التونسيين الذين وجدوا أنفسهم أمام الامر الواقع.
بل الاكثر من ذلك، لم تقم وحداتُ البحث والمخابر الجامعية - على علمنا- بتنظيم أيّ نشاط ولا نشر أي مقال علمي ينأى بهم من الصراعات السياسية، يبيّنون من خلاله الامورَ الدستورية للتونسيين حتى يكونوا على بينة من أمرهم. وهذا يُضاف الى سجلّ اغلبهم المحتشم لكيلا أقول الخاوي من المواقف الواضحة، العلمية والضرورية تُجاه القضايا الاقتصادية والسياسية طيلة العشر سنوات الماضية (أتحدّث هنا عن المؤسّسات العلمية وليس الافراد). وقد تحدّى بعضُهم الرئيسَ بإرساء قانون يمنع الريع بإلغاء رُخَص التصدير لبعض المورّدين مثلا في محاربته للفساد… هؤلاء قد يُنصِف التاريخُ بعضَهم، وقد يؤاخِذ البعضَ الآخر.
- بعض الاحزاب السياسية التي تضرّرت سياسيا من المفاجأة، ارتضت في السّابق الرّكونَ الى الرّتابة في الخطاب بنفس الاخراج الاعلامي ونفس الجُمل ونفس ردود الأفعال من "كرونيكارات" أغلبهم ضعيف البنية الفكرية وفاقد لحسّ الوعي بواقع البلاد ومستقبله، والتي فقدت (هذه الاحزاب) ثقلها في ادارة الشأن العام، والتي مضت في اضاعة الوقت الثمين للتونسيين ولا تتقاسم معه التحديات الحقيقية، فلا هي أخذت مبادرةً سحب الثقة من المشيشي (وقد كتبنا هذا منذ أكثر من شهرين) ولا هي رفعت عنه دعمَها غير المبرّر، حتى لا تتحمّل مسؤولية ضعف أدائه وخضوعه الى الهرسلة.
فقد كانت مواقفُ هذه الاحزاب من (25) يوليو ضعيفة جدّا، ذلك أنّها لم تجد السند - كما يبدو- حتّى من أنصارها، ثمّ دخلَ بعضُها في التجاذبات الدّاخلية التي أخذت من الفضاء العام حلبةً، وبدت (هذه الاحزاب) انّها لم تقُمْ أبدًا بالتقييم الخاضع الى المنهجية الموضوعية المطلوبة، كما شهد البعضُ الآخر استقالات ضمن قيادييها. وكأنّها قبلت بالأمر الواقع من خلال الاهتزاز في المواقف؛ اهتزازٌ قد يكلّفها الكثير في المستقبل.
- بعض الاحزاب التي ساندت قيس سعيّد بالبداية، ثمّ بدأت الآن تتزحزح عن موقفها وتعبّر عن عدم ارتياحها للمسار الذي أخذه الرئيس عندما وعتْ بانّ وضعها لا يختلف عن سائر الاحزاب الاخرى.
فهل لهذه الاحزاب القدرة على الرّجوع الى السّاحة بعد كل هذه الدّروس؟ لا أعتقد ذلك في الأجل القريب، وإنّما أعتقد أنّه على كل الأحزاب من يمينها الى اقصى يسارها، والتي أعتبرُها متجانسةً في تونس وليست عميقة التناقض الفكري والايديولوجي بالشكل الذي يُروّج له (يحتاج الى تفصيل: انظر أدبيات التيارات السياسية التونسية وكذلك برامج الحُكم الاقتصادية والاجتماعية). ورجوعُها الى لعب أدوار حقيقية في المجتمع يخضع الى (1) مدى قدرتها على النقد الذاتي بما يترتّبُ عنه من قرارات جديّة تتعلّق بتنظيمها ومراجعتها لفكرها وقياداتها التاريخية، و (٢) مدى تأثير مشروع قيس سعيّد في الدولة وفي الاقتصادِ.