قيس سعيّ وفنّ الإتصال: ملحمة قتل الثعبان بالمؤخّرة

على عكس ما يعتقده البعض فإنّ قيس سعيّد يتقن فنّ الإتصال والتواصل بشكل على غاية من الحرفية ويتدرّج فيه بحسب تدرّج أهدافه وتقدّمه في تحقيقها. صحيح أن الإخلالات الشكلية في خطابه بارزة للعيان. فهو خلافا لما يدّعيه مريدوه، لا يتقن ارتجال العربية الفصحى كما أنّه يتحدّث بشكل متقطّع متذبذب وكثيرا ما يتلعثم ويتوتّر. ولكنّه في المقابل بارع في إبلاغ رسائله الجوهرية، وهو ما يحسب له.

لنعد قليلا إلى الماضي القريب، أي بُعَيد الإنتخابات، ونحاول بشكل برقي قراءة أبرز المحطّات الكرونولوجية التي طبعت السياسة الإتصالية لرئيس الجمهورية:

المرحلة الأولى : بالغ السيّد رئيس الجمهورية في زيارة المساجد والجوامع في صور ومشاهد ممجوجة ومفتعلة، ولكنّها فعّالة، ليضرب عصفورين وثالثهما بحجر واحد:

- فهو يغازل وعيا شعبيا متعلّقا بالإسلام والتديّن، قناعة أو قشورا، ليس هذا المهمّ،

- كما أنّه يزاحم "أعداءه" في حركة النهضة على أصلها التجاري،

- وأخيرا هو يبعد عن نفسه تهمة اللينينية التي ارتبطت برفيق دربه "رضا لينين" والبعض من قيادات "حزامه التفسيري".

الملفت للإنتباه والطريف في آن، أنّه وبمجرّد أن انتهت المهمّة ونجح في بلوغ أهدافه، إختفى الورع والتقوى وأصبحت زيارة المساجد والجوامع في طيّ النسيان.

المرحلة الثانية : كل المقاهي والمخابز عرفت صولات وجولات السيّد الرئيس في إخراج شعبوي أراد من خلاله عدم القطع مع الفئات التي تعتقد أنّه يمثلها حصريا ونهائيا، في تصادم واضح ومفتعل مع بقيّة شرائح المجتمع من أصحاب المليارات والملايين. بلغ الرّئيس منشوده، ثم اختفت تلك الصولات والجولات لتفسح المجال لأولوية أخرى.

المرحلة الثالثة: لم يترك قيس سعيّد ثكنة، أو مركز أمن أو نقطة حدودية أو مركز تدريب ولم يقم بزيارتها وتناول وجبات الطعام والقهوة مع قياداتها من أمنيين وعسكريين حاملا رسالة واحدة موحّدة: أنا القائد الأعلى للقوّات المسلحة، كلّ القوات المسلحة دون استثناء. ولا يخفى على أيّ كان أنها كانت مرحلة الترتيب للإستيلاء على كلّ السلطات، وبالتالي ضرورة التأكد من ولاء وطاعة أبرز القيادات الأمنية وإدخال التعديلات اللاّزمة، حتى لا يفاجأ بما قد يسقط مخطّطه في الماء.

المرحلة الرّابعة: وهي مرحلة مزدوجة راوح فيها السيّد الرئيس بين المساهمة في تعفين المشهد السياسي وتعطيل المؤسسات وبث خطاب العنف والكراهية والتهجّم على كلّ الفاعلين دون إستثناء وبين استجداء تعاطف الجماهير وتحفيزها من خلال التعويل على معجم الغرف المظلمة والمؤامرات والإيهام بمحاولات الإغتيال…

ساعة الصفر انطلقت منذ شهر جانفي 2021 من خلال خلق مجموعات مغلقة على الفايسبوك لا تحمل هويّة واضحة، ولكنها باشرت التعبئة وشحذ الهمم لتحرّك وطني يكنس النخبة الفاسدة. وممّا لا شكّ فيه فإنّ ما بلغته تونس من تعفّن وانحدار ساهمت فيه كلّ النخبة السياسية ومن ترذيل للمشهد السياسي والوطني ومن تدهور للوضعية الإقتصادية والإجتماعية لمختلف التونسيات والتونسيين ومن مزيد استشراء المحسوبية والزبونية والفساد وتصدّر الفاسدين والمفسدين المشهد السياسي والإعلامي…

ساهم في انتشار هذه المجموعات والصفحات التي بقيت دون هويّة إلى حدود الساعة الصفر يوم 25 جويلية. حتّى أنّ البعض كان يعتقد أنها تابعة لحزب عبير موسي والبعض الأخر يعتقد أنّها لبقايا اليسار، بل وذهب عديدون لاعتبارها مؤامرة إماراتية سعودية لدعم شخصية عسكرية متقاعدة لبث الفوضى والإستيلاء على السّلطة….

غير أنّ ما حدث لاحقا باغت الجميع: مساء 25 جويلية بضعة عشرات اقتحموا مقرّ النهضة بتوزر وبضع عشرات اقتحموا مقرها في القيروان ومسيرة في حدود ألف شخص في سوسة وأخرى كبرى في صفاقس في حدود 15 ألف مشارك وتجمّع أمام باردو في حدود 5 آلاف شخص وبضعة مئات وعشرات هنا وهناك، ثمّ جاء البيان رقم واحد، وانتصبت الدبابات والمدرعات أمام أبواب قصري القصبة وباردو وخرج العديد من التونسيات والتونسيين في احتفالات عفوية فرحا بالتخلّص من المشهد السياسي الرديء.

كانت صدمة لكلّ الفاعلين في تونس أحزابا، ومنظمات، ومؤسسات، ونقابات.. وبهتة أصابت كل القوى الدّولية والإقليمية، شلّت أوصالهم وربطت ألسنتهم.

السؤال اليوم: هل سينجح قيس في قتل الثعبان بعد أن نجح في إفقاده وعيه ؟ قد أعود لاحقا !

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات